responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 364
لَا مِنْ قَوْمٍ يَعْتَقِدُونَ الشَّيْءَ أَوَّلًا بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، ثُمَّ يَلْتَمِسُونَ لَهُ الدَّلِيلَ؛ لِأَنَّ مُقَلِّدِيهِمْ قَالُوا بِوُجُوبِ مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ، فَإِذَا أَصَابُوهُ مُوَافِقًا لِمَا اعْتَقَدُوا، رَضُوا بِهِ وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا، وَإِذَا نَهَضَ لَهُمْ مُخَالِفًا لِتَقَالِيدِهِمْ، رَفَضُوهُ وَتَعَلَّلُوا بِالتَّعِلَّاتِ الْمُنْتَحَلَةِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْجَمَاهِيرُ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ وُصِفُوا فِي الْأَثَرِ بِأَنَّهُمْ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، وَالْعِبْرَةُ فِي خِطَابِ الشَّرْعِ بِأَهْلِ الْيَقِينِ الَّذِينَ صَفَتْ نُفُوسُهُمْ، وَمُحِّصَتْ أَفْكَارُهُمْ، فَسَلِمُوا مِنْ عِلَّةِ الْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ الْمَانِعَيْنِ لِشُعَاعِ الْحَقِّ أَنْ يَنْفُذَ إِلَى الْعُقُولِ، وَلِحَرَارَتِهِ أَنْ تَخْتَرِقَ الصُّدُورَ إِلَى الْقُلُوبِ، هَؤُلَاءِ هُمْ أَنْصَارُ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُمْ بِيَقِينِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْمُرُوقَ مِنْهُ، وَلَا السُّكُوتَ عَنِ الِانْتِصَارِ لَهُ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُرَاجِعُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ دَلِيلُهُ؛ لِأَنَّهُمْ طُبِعُوا عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ، هَؤُلَاءِ هُمُ النَّاسُ الَّذِينَ تَنْزِلُ الشَّرَائِعُ لِأَجْلِهِمْ، وَلَوْلَا اسْتِعْدَادُهُمْ لَهَا لَمَا شُرِعَتْ أَوْ لَمَا نَجَحَتْ، وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَتَبَعٌ لَهُمْ وَعِيَالٌ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ) أَيْ بِالشَّيْءِ الثَّابِتِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي لَا يَضِلُّ مَنْ يَأْخُذُ بِهِ، وَلَا تَعْبَثُ بِهِ رِيَاحُ الْأَبَاطِيلِ وَالْأَوْهَامِ، بَلْ يَكُونُ الْآخِذُ بِهِ سَعِيدًا بِالطُّمَأْنِينَةِ وَالْيَقِينِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْحَقَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَشْمَلُ الْعُلُومَ الِاعْتِقَادِيَّةَ وَغَيْرَهَا فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْعَقَائِدِ الْحَقِّ الْمُطَابِقَةِ لِلْوَاقِعِ، وَالشَّرَائِعِ الصَّحِيحَةِ الْمُوصِلَةِ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، (بَشِيرًا) لِمَنْ يَتَّبِعُ الْحَقَّ بِالسَّعَادَتَيْنِ، (وَنَذِيرًا) لِمَنْ لَا يَأْخُذُ بِهِ بِشَقَاءِ الدُّنْيَا وَخِزْيِ الْآخِرَةِ (وَلَا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) أَيْ فَلَا يَضُرُّكَ تَكْذِيبُ الْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُسَاقُونَ بِجُحُودِهِمْ إِلَى الْجَحِيمِ؛ لِأَنَّكَ لَمْ تُبْعَثْ مُلْزِمًا لَهُمْ وَلَا جَبَّارًا عَلَيْهِمْ، فَيُعَدُّ عَدَمُ إِيْمَانِهِمْ تَقْصِيرًا مِنْكَ تُسْئَلُ عَنْهُ، بَلْ بُعِثْتَ مُعَلِّمًا وَهَادِيًا بِالْبَيَانِ وَالدَّعْوَةِ وَحُسْنِ الْأُسْوَةِ، لَا هَادِيًا بِالْفِعْلِ وَلَا مُلْزِمًا بِالْقُوَّةِ، (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (2: 272) وَفِي الْآيَةِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِئَلَّا يَضِيقَ صَدْرُهُ، كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ أُخْرَى،
وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْعِبْرَةِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ بُعِثُوا مُعَلِّمِينَ لَا مُسَيْطِرِينَ، وَلَا مُتَصَرِّفِينَ فِي الْأَنْفُسِ وَلَا مُكْرِهِينَ، فَإِذَا جَاهَدُوا فَإِنَّمَا يُجَاهِدُونَ دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ لَا إِكْرَاهًا عَلَيْهِ، وَفِيهَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُطَالِبُ النَّاسَ بِأَنْ يَأْخُذُوا عَنْهُمْ إِلَّا الْعِلْمَ الَّذِي يَهْدِيهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَفِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَيَعْقُوبَ: (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) بِالنَّهْيِ، أَيْ لَا تَسْأَلْ عَمَّا سَيُلَاقُونَ مِنَ الِانْتِقَامِ فَإِنَّهُ عَظِيمٌ، فَمِثْلُ هَذَا النَّهْيِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْوِيلِ لَا فِي حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى الْيَوْمِ.
وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ النَّهْيَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّهُ خَاصٌّ بِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ السُّؤَالِ عَنْ أَبَوَيْهِ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ قَبْرَيْهِمَا فَدَلَّهُ عَلَيْهِمَا، فَزَارَهُمَا وَدَعَا لَهُمَا وَتَمَنَّى لَوْ يَعْرِفُ حَالَهُمَا فِي الْآخِرَةِ وَقَالَ: ((لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ)) ؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 364
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست