responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 309
أَنْفُسِهِمْ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَيَتْبَعُ هَذَا الْقِتَالَ الْأَسْرُ، وَمِنْ لَوَازِمِهِ الْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) . وَالتَّظَاهُرُ: التَّعَاوُنُ، وَتَظَاهَرُونَ أَصْلُهُ تَتَظَاهَرُونَ كَمَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ وَهُوَ مَقِيسٌ مَشْهُورٌ. كَانَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْيَهُودِ يُظَاهِرُ حُلَفَاءَهُ مِنَ الْعَرَبِ وَيُعَاوِنُهُمْ عَلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْيَهُودِ بِالْإِثْمِ كَالْقَتْلِ وَالسَّلْبِ، وَبِالْعُدْوَانِ كَالْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ.
وَمِنْ مَثَارَاتِ الْعَجَبِ أَنَّهُ كَانُوا إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى فِدَاءِ الْأَسْرَى يَفْدِي كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْيَهُودِ أَسْرَى أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَعْدَائِهِ، وَيَعْتَذِرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ فِي الْكِتَابِ بِفِدَاءِ أَسْرَى شَعْبِ إِسْرَائِيلَ، فَإِنْ كَانُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِالْكِتَابِ، فَلِمَ قَاتَلُوا شَعْبَ إِسْرَائِيلَ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَهُمْ مَنْهِيُّونَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ؟ هَذَا لَعِبٌ بِالْكِتَابِ وَاسْتِهْزَاءٌ بِالدِّينِ وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -: (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ) بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ أَسَرْتُمُوهُمْ وَأَخْرَجْتُمُوهُمْ بِالتَّظَاهُرِ عَلَيْهِمْ مَعَ الْعَرَبِ، (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ) بِمِيثَاقٍ أَغْلَظَ مِنْ طَلَبِ مُفَادَاتِهِمْ. (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ) وَهُوَ فِدَاءُ الْأَسْرَى، (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) آخَرَ مِنْهُ وَهُوَ النَّهْيُ عَنِ الْقَتْلِ وَالْإِخْرَاجِ؟ أَلَيْسَ مِنَ الْحَمَاقَةِ وَالْهُزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ أَنَّ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مِثْلَ هَذَا الْإِيمَانِ بِأَهْوَنِ الْأُمُورِ مَعَ الْكُفْرِ بِأَعْظَمِهَا؟ وَالْإِيمَانُ لَا يَتَجَزَّأُ، فَالْكُفْرُ بِالْبَعْضِ كَالْكُفْرِ بِالْكُلِّ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُخَالَفَةِ وَالْمَعْصِيَةِ بِالْكُفْرِ دَلِيلٌ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) فَالْقُرْآنُ يُصَرِّحُ هُنَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ بِأَنَّ مَنْ يُقْدِمُ عَلَى الذَّنْبِ لَا تَضْطَرِبُ نَفْسُهُ قَبْلَ إِصَابَتِهِ، وَلَا يَتَأَلَّمُ وَيَنْدَمُ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَيَرْجِعُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - تَائِبًا، بَلْ يَسْتَرْسِلُ فِيهِ بِلَا مُبَالَاةٍ بِنَهْيِ اللهِ - تَعَالَى -
عَنْهُ وَتَحْرِيمِهِ لَهُ، فَهُوَ كَافِرٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ بِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ حَرَّمَهُ اللهُ - تَعَالَى -، الْمُصَدِّقَ بِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ سُخْطِهِ وَمُوجِبَاتِ عُقُوبَتِهِ لَا يُمْكِنُ أَلَّا يَكُونَ لِإِيمَانِ قَلْبِهِ أَثَرٌ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ أَنَّ لِكُلِّ اعْتِقَادٍ أَثَرًا فِي النَّفْسِ، وَلِكُلِّ أَثَرٍ فِي النَّفْسِ تَأْثِيرٌ فِي الْأَعْمَالِ. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّهُ ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ شَارِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) .
وَلَقَدْ سَمَّى اللهُ الذَّنْبَ هَاهُنَا كُفْرًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِوَعِيدِ الْكُفْرِ فَقَالَ: (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) . . . إِلَخْ. أَوْعَدَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - كَمَا أَوْعَدَ مَنْ قَبْلَهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِأَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَى نَقْضِ مِيثَاقِ الدِّينِ الَّذِي يَجْمَعُهُمْ، وَالشَّرِيعَةِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ وِحْدَتِهِمْ وَرِبَاطِ جِنْسِيَّتِهِمْ بِالْخِزْيِ الْعَاجِلِ، وَالْعَذَابِ الْآجِلِ، وَقَدْ دَلَّ الْمَعْقُولُ، وَشَهِدَ الْوُجُودُ بِأَنَّهُ مَا مِنْ أُمَّةٍ فَسَقَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا، وَاعْتَدَتْ حُدُودَ شَرِيعَتِهَا، إِلَّا وَانْتَكَثَ فَتْلُهَا، وَتَفَرَّقَ شَمْلُهَا، وَنَزَلَ بِهَا الذُّلُّ وَالْهَوَانُ، وَهُوَ الْخِزْيُ الْمُرَادُ فِي الْقُرْآنِ، وَهَذِهِ هِيَ سُنَّةُ الْخَلِيقَةِ، ذَكَرَهَا لِيَعْتَبِرَ بِهَا مَنْ صَرَفَتْهُ الْغَفْلَةُ عَنْهَا.

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 309
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست