responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : نسيم الصبا المؤلف : ابن حبيب الحلبي    الجزء : 1  صفحة : 4
فأمسى الناس في عيشة راضية، يرفلون في حلل الرفاهية، أمرعوا بعد الضنك والشظف، وأخصبوا بعد الجدب والطفف، وأصبح محل المحل دارساً، ووجه الأمل يضحك بعد أن كان عابساً، وأخذت الأرض زخرفها بعد أن كان زرعها يهيج، واهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، فثغورها مبتسمة، وفرائد قلائدها منتظمة، ونمارقها مدبجة، ورؤوس أشجارها متوجة، وغدرانها طافحة، ومخايل السعادة عليها لائحة، وألسنة أهلها مشتغلة بشكر علام الغيوب، وقلوبهم مطمئنة بذكره " ألا بذكر الله تطمئن القلوب ".
يبدىء ويعيد، ويمتحن العبيد، ثم يفتح لهم أبواب جوده الوافر وفضله المديد. " وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد ".

الفصل الرابع
في الليل والنهار
أرقت ذات ليلة في مهادي، فسمعت طارقاً ينادي في النادي " عتاب بن ورقاء الشاعر ":
إن الليالي للأنام مناهل ... تطوي وتنشر بينها الأعمار
فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهن مع السرور قصار
فقمت من مضجعي، وقد بل ردني مدمعي، متحيراً في أمري، متأسفاً على ما فات من عمري، وقلت: أيها الطارق في ظلمة الليل الغاسق، هل لك في المنادمة؟ فقال: كم نديم سفك المنى، دمه. ثم سلم وجلس، وما تنفس وما نبس. فقلت: يا من شنف السمع بدُره، اذكر لي شيئاً في طول الليل وقصره. فقال:
وليل كواكبه لا تسير ... ولا هو منها يطيق البراحا
كيوم القيامة في طوله ... على من يراقب فيه الصباحا
مقيم ليس يبرح، وعاجز لا يظعن ولا ينزح، برد نجومه لا يذوب وغائب ضوئه ليس يؤوب، لا يبلى جديد مسحه، ولا يجنح إلى الحركة ساكن جنحه، عليله ما يرجى صلاحه، وصباحه، لا يلوح مصباحه، قطع الطريق على السحر، وعذب أجفان المحبين بالسهر:
حدثوني عن النهار حديثاً ... أوصفوه، فقد نسيت النهارا
كأنه صريع راح، أو طائر مقصوص الجناح، أو أسير يخبط في قيده، أو بحر منع الجزر عن مده، أوكسير ليس له على النهوض اقتدار، أو ضرير يئس طرفه من رؤية النهار:
أو هائم غمر بقطع الفلا ... قد حار لا يدري بمن يهتدي؟
أو جيش زنج بالثرى قد ثوى ... أو دارة حيث انتهت تبتدي
واعلم أيها البصير الناقد، أنه يطول على المهجور الفاقد، ويقصر على المسرور الراقد " أبو سام رحمه الله ":
ليلي كما شاءت فإن لم تزر ... طال، وإن زارت فليلي قصير
فقلت: إيه أيها الإمام، أسمعني شيئاً في وصف الأيام. فقال " ابن الرومي رحمه الله ":
لله أيام تقضت لنا ... ما كان أحلاها وأهناها
مرت فلم يبق لنا بعدها ... شيء سوى أن نتمناها
حيث الوقت معين، دماء الشيبة معين، ونشر البشر فائح، ونور الهناء لائح، والحبيب مجيب، والرقيب غير قريب، وغصن الصبار طيب، ومطرف اللهو قشيب، والعيش غض والدهر غضيض الطرف، وسعاد السعد ممنوعة من الصرف:
والشمل مجتمع، والجمع مشتمل ... على الجميل وحسن الخلق والخلق
أيا أخا الأدب، إلى كم ذا الحرص والدأب، الأيام نجمها غرار، ومدعي الوفاء منها غدار، كثيرة الملال، سريعة الزوال، تفرق الحبائب، وتسترجع المواهب، ذمامها ذميم ومسالمها سليم. تحل العقود، ولا تحفظ العهود، تكدر الصافي من الشراب، وتعد الظامىء بورود السراب، لقد سقط من تمسك بعراها، وتعب من قصد الراحة من ذراها. قال التهامي رحمه الله تعالى:
ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار
ثم قال: مضت الجهمة والشفق، والفحمة والغسق والقطع والسدفة، والبهرة والزلفة وآن لنسمات السحر أن تتبختر، ولعيون الفجر أن تتفجر. وقام للوداع، فقلت زودني بأنعم المتاع.
فقال: دع إزار الأوزار، واتق من لا تدركه الأبصار، وسبحه بالعشي والإبكار " وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ".

الفصل الخامس
في أقسام العام
حضر فصول العام مجلس الأدب في يوم بلغ منه الأريب نهاية الأدب، بمشهد من ذوي البلاغة، ومتقني صناعة الصياغة. فقام كل منهم يعرب عن نفسه، ويفتخر على أبناء جنسه، فقال الربيع:
اسم الکتاب : نسيم الصبا المؤلف : ابن حبيب الحلبي    الجزء : 1  صفحة : 4
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست