فإذا توسّطت كانت في العين أصغر ورأيت أيضا أشدّ تقاربا . قال أبو حنيفة : لذلك أيضا يرى الكوكب من الكواكب إذا طلع متقدما لكوكب آخر ، حتى إذا تدلَّيا من وسط السّماء يطلبان الغور صار المتقدّم متأخرا منهما ، والمتأخّر متقدما ، وحتى يغيب أبطؤها طلوعا ويبقى صاحبه بعده مدة كالسّماك الرّامح ، فإنّه يطلع بين يدي الفكة بزمن ، حتى إذا هما تصوّبا للمغيب تقدم السّماك فغاب قبلها بمدة ، وكالعيّوق فإنه يطلع قبل الدّبران بزمن ثم يغيب بعده بحين . و كذلك الرّدف يطلع قبل النّسر الطَّائر بقليل ، ويغيب بعده بزمن . وقول لبيد ( دائب مورها ) يعني جريها . وأما قوله : ( يصرفها الغور ) كما يصرف الهجان الدّوار ، فقد أحسن التّشبيه لأنّ النّجوم إذا غابت ردّها الفلك إلى الطَّلوع كما يفعل الطَّائفون بالدّوار ، فإنهم إذا قضوا طوافا استأنفوا طوافا ، والدّوار : أنصاب كانت لأهل الجاهلية يطوفون حولها كما يطاف بالكعبة . قال أبو حنيفة : ولا زورار الكواكب ذات اليمين قال الشاعر شعرا :
ألا طرقت دهقانة الرّكب بعدما * تقوّض نصف اللَّيل واعترض النّسر
يعني النّسر الطَّائر وإنما اعتراضه من قبل ازوراره في السّير وأنت تراه في وسط السّماء باسطا جناحا في جهة الجنوب ، وجناحا في جهة الشّمال حتى إذا تصوّب للمغيب اعترض فصار أحد جناحيه في جهة المغرب والآخر في جهة المشرق على خلاف الصّفة الأولى ، من هذا النّحو قول امرئ القيس شعرا :
إذا ما الثّريا في السّماء تعرّضت * تعرّض أثناء الوشاح المفصّل
لأنها تتلقاك في مطالعها بأنفها ، وهو أدقّ طرفيها ، حتى إذا تصوّبت للمغيب اعترضت فكانت أشبه شيء بانظام جمع طرفاها ثم طرح وتلقاك بعرضه وذلك أنّ الثّريا سطران فهي كانظام مثنى مثنى ومنه قول المرار شعرا :
و بنات نعش يعترضن كأنّما * تمسي الرّكاب معارضات صواريا
و ( بنات نعش ) : من أشد الكواكب اعتراضا لأنّها لا تغيب إلا في بعض المواضع فإذا دار الفلك بها بحيث لا تغيب ، نظرت إليها بكلّ منظر معترضات ومنتصبات ومنقلبات ، وكذلك جميع الكواكب المنتظمة على أشكال مما قارب القطب كذلك حالها حيث لا تغيب ، فأمّا تشبيه إيّاها بالصّوار فإنّ من عادة الشّعراء تشبيه الكواكب بالبقر والظَّباء ، وإذا رأيت الوحش سوارب في مراتعها رأيتها بيضاء تلوح كأنّها نجوم .