فإن قال قائل : فهل يجوز أن نعلم القديم تعالى من طريق الخبر ؟ قلت : لا ، لأنّ الخبر على قسمين : فمنه ما يضطر السّامع إلى العلم بالمخبر به كالخبر عن البلدان والأمصار ، وقد علمنا أنه لا يجوز أن نعلم اللَّه من هذه الجهة ، لأنا وجدنا العقلاء يشكون من أنّ لهم صانعا مع إخبار المخبرين به ، ولو كان يعلم من طريق الخبر لكان لا فرق بين خبر من زعم أنّ الصّانع واحد وبين من قال اثنان أو ثلاثة ، على أنّ الخبر إنّما يضطر إذا كان المخبر يخبر عن مشاهدة ، لأنه لا يجوز أن يكون حال المخبر يعلم ضرورة ومن الخبر ما يعلم من طريق الاستدلال ، كخبر النبي صلى اللَّه عليه وسلم ، ولا يجوز أن يعلم اللَّه من هذه الجهة ، لأنّ القائل بهذا القول أحد رجلين ، إمّا أن يقول لا يعلم اللَّه إلا من جهة الخبر ، فيلزمه أن يكون النبي لا يعرف اللَّه إلَّا بنبي آخر وذلك يوجب التّسلسل إلى ما لا نهاية ، وإمّا أن يقول : إنه يعلم من جهة النبي ومن جهة أخرى أيضا ، وهذا فاسد لأنه ليس في النبيّ أكثر من إظهار المعجزات والمعجزات لا تدل على حكمة فاعلها ، فكيف يكون خبر النبي طريقا إلى العلم باللَّه وإذ قد ذكرنا وجوب معرفة اللَّه تعالى والطريق إليه هاهنا ، وممّا تقدّم فإنّنا ننكر الكلام على الملحدة والمتحيرين . فصل [ في بيان أنواع الضّلال ] اعلم أنّ أنواع الضّلال ثلاثة : المعاندة والحيرة والجهالة . فالمعاندة على الإطلاق ينبغي أن لا يحصل لأحد منّا علم حقيقي ولا معرفة تفضي إلى يقين ، وإنما هي ظنون وخواطر لا تسكن النّفس إليها ، وتسميتنا لها ولأمثالها بالعلوم توسع ومجاز . والوجه في مدافعتهم أن يقال لهم : أتقولون ما ذكرتم عن خلوص علم ، أو تسلط ظن ؟ فإن ادّعوا العلم فقد ناقضوا ، وإلَّا حصلوا على عناد ، وقد ذكر أبو عثمان الجاحظ في الكفار الذين قتلهم النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنّهم كانوا عارفين باللَّه معاندين . و اعترض عليه فقيل : إنّ العناد يجوز على العدد اليسير ، فأمّا الجماعة الكثيرة فلا يصح عليها ذلك ، ونحن نعلم من أنفسنا وقد كنا على مذاهب فتركناها لفسادها أنّا لم نكن في حال اعتقادنا معاندين ولا كاذبين لأنفسنا ، وإنّما تركنا الاستدلال ، فكذلك أولئك الكفار قد علموا فيما أظهره النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنها معجزات ، لكنهم تركوا الاستدلال بها على ثبوته وصدقه . و المتحيرون هم الذين يزعمون أنّ العلم بالمحسوسات قد يصح ، ولكن ما عداها مما يحال فيه على العقل نحن شاكون فيه ومتوقفون ، والكلام عليهم طريقه أن تقلب عليهم نفس ما أوردوه فيقال : تدفعون مقتضيات العقول بالمشاهدات أو بحجج العقول ولا فلاح لهم أي الطَّريقين سلكوا .