واللَّهِ، لوْ كنْتِ شَخْصاً مَرئِياً، وقالَباً حِسِيَّاً، لأقَمْتُ علَيْكِ حُدُودَ اللَّهِ في عِبادٍ غَرَرْتِهِم بالأمانيّ، وأُمَمٍ ألْقَيْتِهم في المَهاوي، ومُلُوكٍ أسْلَمْتِهِم إلى التَّلَفِ، وأوْرَدْتِهِم موَارِدَ البَلاءِ؛ إذْ لا وِرْدَ ولا صَدَرَ. هَيْهات، مَن وَطِئَ دَحْضَكِ زَلِقَ، ومَن رَكِبَ لُجَجَكِ غَرِقَ، ومَن ازْوَرَّ عَن حِبائِلِكِ وُفِّقَ، والسَّالمُ مِنْكِ لا يُبالي إنْ ضَاقَ به مُنَاخُه، والدُّنيا عندَه كيَوْمٍ حانَ انْسِلاخُهُ.
اغربي عَنِّي، فو اللَّه لا أذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّيني، ولا أسْلَسُ لَكِ فَتَقُودِيني، وأيْمُ اللَّهِ- يَمِيناً أسْتَثْنِي فيها بمَشِيئة اللَّهِ- لأرُوْضَنَّ نَفْسِي رِياضَةً تَهُشُّ مَعَها إلى القُرْص إِذا قَدَرَت علَيْهِ مَطْعُوماً، وتَقْنَعُ بالمِلْحِ مأدُوماً، ولأدَعَنَّ مُقْلَتِي كَعَيْنِ ماءٍ نَضَبَ مَعِينُها، مُسْتَفْرَغَةً دُموعُها، أتَمْتَلِى ءُ السَّائِمَةُ من رَعْيِها فَتَبْرُك، وتَشْبَعُ الرَّبِيضَةُ من عُشْبِها فَتَرْبِضُ، ويأكُلُ عَلِيٌّ من زَادِهِ فَيَهْجَعُ؟ قَرَّت إذاً عَيْنُهُ، إذا اقْتَدَى بَعْدَ السِّنينَ المتَطاوِلَةِ بالْبَهِيمَةِ الهامِلَةِ، والسَّائِمَةِ المَرْعِيَّةِ!
طوبَى لِنَفْسٍ أدَّتْ إلى ربِّها فَرْضَها، وعَرَكَتْ بجَنْبِها بُؤسَها، وهَجَرَتْ في اللَّيْلِ غُمْضَها، حَتَّى إذا غَلَبَ الكَرَى عليْها افْتَرَشَتْ أرْضَها، وتَوَسَّدَتْ كَفَّها، في مَعْشَرٍ أسْهَرَ عيُونَهُم خَوْفُ مَعادِهم، وتَجافَتْ عَن مضاجِعِهِم جنُوبُهم، وهَمْهَمَتْ بِذكْرِ ربِّهِم شِفاهُهُم، وتَقَشَّعَت بِطُولِ اسْتْغْفارِهِم ذُنُوبُهُم «أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَآ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» [1].
فاتَّقِ اللَّهَ يابنَ حُنَيْفٍ، ولتكفف أقْراصُك، لِيَكونَ مِنَ النَّارِ خَلاصُكَ».
[2]
[1]. المجادلة: 22.
[2]. نهج البلاغة: الكتاب 45 و راجع: الخرائج و الجرائح: ص 342، المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 10 بحار الأنوار: ج 40 ص 318 وج 75 ص 448، جمهرة رسائل العرب: ج 1 ص 328.