ومن جهة أخرى ملأ الرعب قلوبهم لمّا
وجدوا الدولة على هذه القوّة والجرأة والقسوة ، فكيف يمكن التصدي لها ، والإمام في
مثل هذا الموقع من الضعف ، فليس التقرّب منه إلاّ مؤدّيا الى الاتهام والمحاسبة ،
فلذلك ابتعد الناس عن الإمام عليهالسلام.
لكن الإمام زين العابدين عليهالسلام بخطته الحكيمة استفاد من هذا الابتعاد
، وقلبه الى عنصر مطلوب ، ومفيد لنفسه ، وللجماعة الباقية من حوله على ولائه.
حتى اصبح ، بما ذكرنا من التصرفات ، في
نظر رجال الحكم « خيرا لا شرّ فيه ».
وبذلك التخطيط
الموفّق حافظ الإمام عليهالسلام
، لا على نفسه وأهل بيته من الإبادة الشاملة ، فقط ، بل تمكّن من استعادة قواه ،
واسترجاع موقعه الاجتماعي بين الناس ، لكونه مواطنا صالحا لا يخاف من الاتصال به
والارتباط به ، لانه أصبح « علي الخير » [١].
وطبيعي أن يعود الناس ، وتعتدل سيرتهم
مع الإمام حينئذ ، ولذلك قال الإمام الصادق عليهالسلام
في ذيل كلامه السابق : « ...
ثم إن النا لحقوا وكثروا » [٢].
أن انفراط أمر الشيعة بعد مقتل الحسين عليهالسلام وتشتت قواهم ، كان من أعظم الأخطار
التي واجهها الإمام السجاد عليهالسلام
بعد رجوعه الى المدينة ، وكان عليه ـ لأنه الإمام ، وقائد المسيرة ـ أن يخطط
لاستجماع القوى ، وتكميل الإعداد من جديد ، وهذا كان بحاجة الى إعداد نفسي وعقيدي
وإحياء الأمل في القلوب ، وبثّ العزم في النفوس.
وقد تمكّن الإمام السجاد عليهالسلام بعمله الهادىء الوادع من الإشراف على
تكميل هذه الاستعادة ، وعلى هذا الإعداد ، والتمهيد ، بكل قوة ، وبحكمة وبسلامة
وجدّ.
وكما قد يكون تأسيس بناء جديد ، اسهل
وأمتن من ترميم بناء متهرّىء ، فكذلك ، إن بناء فكرة في الأذهان الخالية من
الشبهات ، والمليئة بالأمل بهذه الفكرة ، والجادّة في الالتفاف حولها ، والعزم على
إحيائها ، هو أسهل ، وأوفر جهدا من محاولة ترميم فكرة أصاب الناس يأس منها ،
وتصوّر إخفاق تجربتها ، وهم يشاهدون إبادة
[١] شرح نهج البلاغة
، لابن أبي الحديد ( ١٥ : ٢٧٣ ).
[٢] اختيار معرفة
الرجال ( الكشي ) (ص ١٢٣) رقم (١٩٤).