تعالى في الأزل على وجه الخصوص والجزئيّة كما هي بعد التكوين، فكونها- سواء كان في هذه النشأة أو في النشأة البرزخيّة أو في نشأة معاد وحشر الأجساد- لباس لها، واللَّه تعالى عالم في الأزل بذاته من غير صورة وشبح ومثال بأنّ المهيّة الإنسانيّة- التي الاختيار المطلق فصلٌ لها، أو لازم فصل- يختار كلّ فرد منها باعتبار خصوصيّته في أيّ نشأة متلبّساً بلباس له في تلك النشأة، مع أيّ داعٍ يوجّهه إليه، ماذا من الخيرات والشرور حسبَ المناسبة الذاتيّة، وربّما يختار بعضهم بصميم القلب مع داع خاصّ أن يفعل فيما يأتي خيراً، فإذا حان حين الفعل انقلب اختياره إلى اختيار الضدّ، وهذا الأخير هو الاختيار الذاتي الذي كان لسان حال له في علم اللَّه يسأل به التمكّن من الوصول إلى مختار ذلك الاختيار الذي هو محبوبه، بل معشوقه.
ويشهد لما ذكرنا من أمر الاختيار الذاتي مضافاً إلى التجربة والوجدان قولُه تعالى في سورة المؤمنون: «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»[1]؛ وذلك لظهور أنّه كان عند حضور الموت قد اختار أن يعمل، صالحاً فيما ترك لو رجع، مع أنّ اللَّه تعالى أخبر أنّه لا يعمل، بل يختار الترك.
ومثله قوله تعالى في سورة فاطر: «وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ»[2].
وفي سورة الأنعام: «وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ»[3].
وما لم يجيء وقت الفعل لم يعلم الاختيار المكنون في الذات سوى الذي يعلم السرّ وأخفى، وإلى هذا اشير في قوله تعالى: «وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً»[4].