الظاهر أنه ليس فيما
بأيدينا من الطرق والامارات ما يكون مخترعا شرعيا ، بل جميع الطرق والامارات مما
يتعاطاها يد العرف في إثبات مقاصدهم ، كالاخذ بالظواهر والعمل بالخبر الواحد ونحو
ذلك من الطرق والامارات ، فهي عندهم محرزة للمؤدى وكاشفة عنه وواسطة لاثبات
مقاصدهم كالعلم ، والشارع قد أبقاها على حالها وأمضى ما عليه العرف ، فالأمارات
تكون كالعلم من حيث الاحراز والكاشفية وإثبات المؤدى ، وليس أخذ العقلاء بالامارات
لمجرد تطبيق العمل على مؤدياتها بلا توسط الاحراز ، فإنه ليس في بناء العقلاء تعبد
في مقام العمل ، فتطبيق عملهم على ذلك إنما هو لكونها محرزة للمؤدى.
فظهر : أن المجعول في الامارات ليس هو
مجرد تطبيق العمل على المؤدى ، بل تطبيق العمل على المؤدى من لوازم المجعول فيها ،
وإنما المجعول أولا وبالذات
الأصول. والاشكال
عليه : بأن هذه المرتبة من الحجية أيضا غير قابلة للجعل له مقام آخر ولكن لا إشكال
في اعتبارية الحجية حقيقة ، وإنما الاشكال في جعليته أو انتزاعيته من جعل آخر.
وعلى أي حال : فرق بين الحجية
والطريقية بمعنى الكاشفية التامة بنفي احتمال الخلاف. ومجرد إمضائية هذه الجهة
للطريقية العرفية لا يقتضي جعلية هذا المعنى بحقيقته لدى العرف ، بل المرتكز في
أذهانهم أيضا إلقاء احتمال الخلاف في طرقهم عناية وتنزيلا لا حقيقة ، فحركتهم على
طبق طرقهم ناش عن بنائهم على انكشاف الواقع ، لا على انكشافه حقيقة ، ولا نعني من
البناء المزبور إلا العناية والتنزيل ، والشارع أمضى أيضا هذه العناية. ومن هذه
الجهة قلنا : بأن هذا البناء شرعا والتنزيل يحتاج إلى أثر كي يكون البناء والتنزيل
بلحاظه ، وإلا فبدونه لا اعتبار للتنزيل. فلا محيص حينئذ من الالتزام بوجود أمر
طريقي هو المصحح للعقوبة ، وإلا فنفس التنزيل المزبور بلا مصحح له شرعا لا اعتبار
له ، كي يصلح للمنجزية ، ولقد شرحنا هذه المقالة في مسألة جعل الطرق.
وبالجملة : فالمقرر خلط بين
مسلك جعل الحجية بمعنى القاطعية للعذر ـ الذي أفاد استاذنا بأنها من الأمور
الاعتبارية ومن الأحكام الوضعية كالملكية والجزئية ـ وبين جعل الكاشف والطريقية
الملازم للوسطية في إثبات الحكم الذي بهذه العناية يقوم مقام العلم وحاكم على
الأصول ، وذلك بتخيل أن الكاشفية أيضا من سنخ الملكية التي يكون بحقيقته جعليا ،
ولعمري! انه وقع من السماء إلى الأرض بلا التفات إلى اختلاف المسالك بحقيقته
ونتيجته ، فتدبر بعين الانصاف.