إذا عرفت ذلك ، فنقول : إن القول
بالتخيير في باب تعارض الأصول مما لا شاهد عليه ، لا من ناحية الدليل والكاشف ،
ولا من ناحية المدلول والمنكشف.
أما انتفاء الشاهد من ناحية الدليل :
فهو مما لا يكاد يخفى ، فان دليل اعتبار كل أصل من الأصول العملية إنما يقتضي
جريانه عينا سواء عارضه أصل آخر أو لم يعارضه ، وليس في الأدلة ما يوجب التخيير في
إجراء أحد الأصلين المتعارضين [١]
وأما انتفاء الشاهد من ناحية المدلول :
فلان المجعول في باب الأصول العلمية ليس هو إلا الحكم بتطبيق العمل على مؤدى الأصل
، إما بقيد أنه الواقع ، وإما لا بقيد ذلك ـ على اختلاف المجعول في باب الأصول
التنزيلية وغيرها ـ ولكن الحكم بذلك ليس على إطلاقه ، بل مع انحفاظ رتبة الحكم
الظاهري باجتماع القيود الثلاثة المتقدمة ، وهي الجهل بالواقع ، وإمكان الحكم على
المؤدى بأنه الواقع ، وعدم لزوم المخالفة العملية ، بالتفصيل المتقدم ، فعند
اجتماع هذه القيود الثلاثة يصح جعل الحكم الظاهري بتطبيق العمل على المؤدى ، ومع
انتفاء أحدها لا يكاد يمكن جعل ذلك ، وحيث إنه يلزم من جريان الأصول في أطراف
العلم الاجمالي مخالفة عملية فلا يمكن جعلها جمعا ، وكون المجعول أحدها تخييرا وإن
كان بمكان من الامكان ، إلا أنه لا دليل عليه ، لا من ناحية أدلة الأصول ، ولا من
ناحية المجعول فيها [٢].
[١] أقول : يكفي
دليلا ملاحظة أجمع بين إطلاق دليل الحلية لكل واحد من الفردين على أي حال ، وبين
حكم العقل بعدم إمكان الجمع بين الشكين في هذا الحكم ، فيدور الامر بين تخصيص
الفردين ، أو تقيد كل واحد بحال عدم ارتكاب الآخر ، ومعلوم : أن التقيد المزبور
أولى من التخصيص ، وذلك أيضا هو الوجه في تقييد إطلاق كل واحد من الخطابين في باب
المتزاحمين ، ولا يرى بينهما فرقا بين المقامين ، إذ في الصورتين يستكشف من
الاطلاق دخول كل واحد في حال دون حال ، فالمستكشف حكم ملازم مع التخيير واقعا
والتعبد بإطلاق الكاشف حكم ظاهري. وتوهم الفرق بين التقريب في المثال وباب
المتزاحمين بالواقعية والظاهرية في غير محله.
[٢] أقول : فيه ما
فيه! ولا يكفيه من التوجيه ، إذ الدليل عليه كالنار على المنار ، ولا يبطله إلا
تعلق