اسم الکتاب : سراج الملوك المؤلف : الطرطوشي، أبوبكر الجزء : 1 صفحة : 76
المنى و الآمال، و أمدّوا بالآلات و العدد و
الأموال، كيف طحنهم بكلكله[1] المنون، و
اختدعهم بزخرفه الدّهر الخئون[2]، و أسكنوا
بعد سعة القصور بين الجنادل[3] و الصخور،
و عاد العين[4] أثرا، و
الملك خبرا، فأمّا اليوم فقد ذهب صفو الزّمان و بقي كدره، فالموت اليوم تحفة لكل
مسلم، كأن الخير أصبح خاملا، و الشر أصبح ناظرا، و كأن الغبىّ أصبح ضاحكا و الرشيد
باكيا، و كأن العدل أصبح غائرا، و أصبح الجور عاليا، و كأن العقل أصبح مدفونا و
الجهل منشورا، و كأن اللؤم أصبح باسقا، و الكرم خاويا، و كأن الودّ أصبح مقطوعا و
البغضاء موصولة، و كأن الكرامة قد سلبت من الصالحين، و توخّي بها الأشرار، و كأن
الخبّ[5] أصبح
مستيقظا و الوفاء نائما، و كأنّ الكذب أصبح مثمرا و الصدق ماحلا، و كأن الأشرار
أصبحوا يسامون[6] السماء، و
أصبح الأخيار يردون بطن الأرض، أما ترى الدنيا تقبل إقبال الطالب، و تدبر إدبار
الهارب، و تصل الملول[7]، و تفارق
فراق العجول، فخيرها يسير، و عيشها قصير، و إقبالها خديعة، و إدبارها فجيعة، و
لذّاتها فانية، و تبعاتها باقية، فاغتنم غفوة الزمان، و انتهز فرصة الإمكان، و خذ
من نفسك لنفسك، و تزوّد من يومك لغدك، و لا تنافس أهل الدنيا في خفض عيشهم، و لين
رياشهم[8]، و لكن
انظر إلى سرعة ظعنهم[9]، و سوء
منقلبهم، قال الشاعر[10]:
ربّ
مغروس يعاش به
عدمته
عين مغترسه
و
كذاك الدّهر مأتمه
أقرب
الأشياء من عرسه
[1] - الكلكل: الصدر، أو ما بين الترقوتين، الكلكل من
الفرس: ما بين محزمه إلى ما مسّ الأرض منه إذا ربض.