و كان مالك بن دينار يقول: و اللّه لقد هممت
أن أوصي أهلي إذا أنا مت أن يقيدوني و يغلوني و يدخلوني في القبر كذلك كما يفعل
بالعبد المجرم الآبق من سيده، كيف يمني أحدكم نفسه بدخول الجنة و التنعم بالحور و
القصور و هو مستوجب للسعير و الثبور، و كان الفضيل بن عياض يقول: و اللّه إني لا
أغبط نبيا مرسلا و لا ملكا مقربا لأن كل هؤلاء يشاهدون أهوال يوم القيامة، و إنما
أغبط من لم يخلق بعد، و تقدم قول سفيان بن عيينة ينبغي للعبد أن يكون عند اللّه من
أجل عبيده، و عند نفسه من أشر العبيد و عند الخلق من وسطهم.
و كان فرقد السنجي يقول: دخل بيت المقدس خمسمائة بكر نغص عليهن بعض
الأحبار شيئا من أمور الآخرة فمتن جميعا في ساعة واحدة و كان لباسهن المسوح، و كان
عطاء السلمي رضي اللّه عنه يقول: اللهم إني أسألك العفو و الصفح و لا يتجرأ قط أن
يقول اللهم أدخلني الجنة، قال فرقد السنجي: و دخلنا مرة على عطاء السلمي فوجدناه
قد وضع خده على الأرض في الشمس فنظرنا إليه فإذا مجرى دموعه في خديه قد انسلخ من
البكاء، و رأينا ما تحت خده من الأرض قد صار طينا و وحلا، و كان كثيرا ما يتلقى
دموعه بيديه و يرشها حوله حتى يظن الداخل إن ذلك ماء الوضوء.
و بلغنا أنه مكث لم يرفع طرفه إلى السماء أربعين سنة فرفع طرفه يوم
غفلة و وقع على بطنه فانفتق في بطنه فتق فلم يزل مريضا به إلى أن مات، و كان إذا
أصاب أهل بلده بلاء يقول هذا بذنوب عطاء لو أنه خرج من بلادهم لما نزل عليهم بلاء،
و كان غالب الميل يمس جلده مخافة أن يكون قد مسخ، و كان يقول خرجنا مرة مع عتبة
الغلام فمررت على مكان فسقط مغشيا عليه، فلما أفاق قال هذا مكان عصيت اللّه فيه و
أنا دون البلوغ، و كان ذلك بعد أن صلى الصبح بوضوء العشاء نحو أربعين سنة هو و
أصحابه حتى نحلت أبدانهم و تغيرت ألوانهم حتى صارت كأنها قشور البطيخ الهندي.
و سيأتي في هذا الكتاب زيادة على ذلك و أنه كان يغشى على أحدهم من
البكاء و بعضهم يبكي بكاء الميت إلى أن مات رحمه اللّه، و الحمد للّه رب العالمين.