و كان أبو سليمان الداراني رحمه اللّه تعالى
يقول: ليس للرجل أن يحمل أهله و عياله على الزهد في الدنيا و إنما عليه أن يدعوهم
إليه فإن أجابوه و إلا زهد في نفسه و أتاهم بما يصلحهم، و كان رحمه اللّه تعالى
يقول: ما أشغلك عن ربك من أهل أو مال أو غير ذلك فهو مشتوم عليك.
(قلت) و ذلك لأن اللّه تعالى جعل الموجودات كلها مذكرة للعبد بربه عز
و جل و هناك تكون مباركة عليه بخلافها إذا حجبت العبد عن ربه، و من هنا كان الولد
و المال أعظم فتنة للعبد لأنه لا يصح له الإقبال على اللّه تعالى مع الميل إليهم
فافهم، و قد بلغ وكيعا رحمه اللّه تعالى أن سفيان الثوري رحمه اللّه تعالى أكل
الطباهيج فعاب ذلك عليه و قال: إن الناس يقتدون بك في أكل الشهوات.
و كان بلال بن سعد رحمه اللّه تعالى يقول: لو لم يكن لنا إلا رغبتنا
بعد أن زهدنا اللّه فيها لكان في ذلك كفاية من الذنب، و قد كان أبو سليمان
الداراني رحمه اللّه تعالى يقول:
قد سمعنا في الزهد كلاما كثيرا و أحسن ما رأيناه فيه أنه الزهد في كل
شيء يشغل عن اللّه تعالى حتى العلم و العمل.
(قلت) يعني بأن دخل فيهما الرياء و العجب أو حب ثناء الناس أو نحو
ذلك و إلا فمن أخلص في علمه و عمله لا يصلح في حقه الزهد في ذلك، لأن الإخلاص
فيهما مما يجمع قلب العبد على ربه عز و جل و اللّه أعلم، و قد قال رجل مرة لسفيان
بن عيينة رحمه اللّه تعالى دلني على زاهد أجلس إليه من العلماء، فقال له: يا هذا
تلك ضالة لا توجد، و كان يحيى بن معاذ رحمه اللّه تعالى يقول: الزهد كله تعب نفس
فمتى مال صاحبه إلى الراحة في الدنيا فقد رجع عن الزهد حينئذ.
و كان محمد بن سيرين رحمه اللّه تعالى يقول: قد طلبوا الإمام أبا
حنيفة للدنيا فهرب منها و طلبنا نحن الدنيا فهربت منا، فانظروا كم بين الرجلين، و
كان يوسف بن أسباط رحمه اللّه تعالى يقول: طلبت من اللّه تعالى ثلاث خصال أن أموت
و ليس في ملكي درهم و لا عليّ درهم و لا على عظمي لحم، قال: فمات رحمه اللّه كذلك،
و قد أرسل الخليفة مرة بجوائز إلى الفقهاء فقبلوها و أرسل إلى الفضيل بن عياض عشرة
آلاف درهم فردها، فقال له أولاده: قد قبل الفقهاء ذلك و هم قدوة الناس فهلا قبلت
أنت الآخر، قال: فبكى و قال: ما مثلي و مثلكم إلا كمثل قوم لهم بقرة يحرثون عليها
فلما هرمت قالوا لبعضهم