اسم الکتاب : الاقتباس من القرآن الکریم المؤلف : الثعالبي، أبو منصور الجزء : 1 صفحة : 272
لا يستغنى في الاستبصار في أصول الدين عن صناعة
الكلام التي هي صناعة البحث والنظر. وكان السلف الصالح من أهلها إنما شغلوا أنفسهم
باستعمالها ، والإقبال عليها ؛ ليصيروا بها متمهرين بالمشاركة بين الملل [1]
المختلفة ، والنحل المتغايرة ، ويعرفوا بذلك الفضل الذي يحصل لدين الإسلام على ما
سواه من الأديان فيكونوا على يقين من أمرهم على ما يعتقدونه من أصول دينهم [2] ،
وليكونوا على بصيرة ، كما اشترط الله على رسوله في قوله تعالى : (قُلْ
هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)[3] ،
وليقوموا بمجادلة الملحدين الخاطئين على الإسلام إذا قصدوا الإلحاد فيه ، والغض
منه ، إذ كان الجهاد مقتسما قسمين : أحدهما الذبّ عنه باللسان ، والآخر الذب عنه
باليد. والذب باللسان أبلغ في نصره وتأييده في كثير من الأحوال (والأوقات) [4].
وكانوا يتعاطون هذه الصناعة حسبة وابتغاء للقربة إلى الله تعالى ، والزلفة لديه.
ثم حدّت قوم من متعاطييها سلكوا فيها سبيل من تقدم ، بالمباهاة باللدد [5] في باب
الجدال لقطع الخصوم والاستعلاء في مجالس المناظرة لكي يذكر بالتبريز فيها ، وقلة
الاحتفال عند خوف الانقطاع ، ولزوم الحجة بحمل النفس على الدعاوى الشنيعة
والاعتلالات المستكرهة ، والشذوذ على الآراء المتلقاة من الجميع بالقبول. فصيروا
هذه الصناعة ـ على (نفاسة) [6] خطرها ، وشدة الحاجة في قوام أصول
الدنيا إليها ـ واقعة في حسن الذم ، وصيّروا الموسومين بها عرضة ألسن عائبيها
ومنقصيها.