responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : دعاء الأسحار للإمام علي بن الحسين السجاد برواية أبي حمزة الثمالي المؤلف : الآصفي، محمد مهدي    الجزء : 1  صفحة : 10

دعاء الإمام زين العابدين (ع) في الأسحار برواية أبي حمزة الثمالي (رحمه الله)

في المصباح عن ابي حمزة الثمالي (رحمه الله) قال: كان زين العابدين (ع) يصلي عامة الليل في شهر رمضان، فإذا كان في السحر دعا بهذا الدعاء:

إلهي لا تُؤدِّبني بِعقُوبتكْ‌[1]، ولا تمَكُرْ بي في حِيلَتكْ‌[2]، مِنْ أَينَ ليَ الخيرُ يا


[1] - من تأديب الله تعالى لعباده الذين يعصون أمره أن يعاقبهم عَلى شقاقهم وتمردهم في الدنيا، أو يؤخر عقوبتهم إلى الآخرة. يقول تعالى: وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ الأنفال: 8، ويقول تعالى: وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ البقرة: 211.

والمعنى أن لا يؤاخذنا الله بذنوبنا فيؤدبنا بعقوبته.

[2] - المكر من الناس الخدعة، ومن الله تعالى الرد على مكر الناس وذنوبهم وسوء أعمالهم باستدراجهم إلى العقوبة، من حيث لا يعلمون، قال تعالى: وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ، وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ الأنفال: 30. وكذلك الحيلة من الله تعالى استدراج الناس من حيث لا يعلمون إلى ما يكرهون من العذاب والبلاء عقاباً لهم على سيئات أعمالهم، يقول تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. فالمعنى: لا تؤاخذني اللّهم بما عصيت فتستدرجني إلى ما اكرهه من العذاب والبلاء والهوان.

توضيح وتفصيل حول العقوبات:

العقوبات من ضرورات الإسلام والذي ينكرها ينكر بعض ضروريات الدين.

وبالعقوبات نستدل على عدالة الله ... وبالعدالة نستدل على ضرورة وجود العقوبات في الدين.

تماماً مثل الأنظمة الاجتماعية والحقوقية العادلة فأنها لابد ان تتضمن نظاماً خاصاً للعقوبات ... ومن دون ذلك لا تستطيع ان تحقق العدالة في العلاقات الاجتماعية.

فلا يمكن في النظام الكوني القائم على العدالة والحكمة ان لا تتضمن نظاماً للعقوبات في الدين، كما لا يمكن أن لا يكون لخالق هذا النظام ومدبره نظام للعقوبات.

عن أبي رفعه، قال: أن أمير المؤمنين( ع) صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس الذنوب ثلاثة، ثم أمسك. فقال له حبة العرني: يا أمير المؤمنين فسّرها لي.

فقال: ما ذكرتها إلّا وأنا أريد ان أفسرها، ولكنه عرض لي بُهْر( انقطاع النفس بسبب الاعياء) حال بيني وبين الكلام.

نعم، الذنوب ثلاثة: فذنب مغفور، وذنب غير مغفور، وذنب نرجو لصاحبه ونخاف عليه.

قيل يا أمير المؤمنين فبينها لنا.

قال: نعم، أما الذنب المغفور فعبد عاقبه الله على ذنبه في الدنيا فالله أحكم وأكرم ان يعاقب عبده مرتين.

وأما الذنب الذي لا يغفر فمظالم العباد بعضهم لبعض ... إن الله تبارك وتعالى إذا برز لخلقه أقسم قسماً على نفسه، فقال وعزتي وجلالي، لا يجوزني ظلم ظالم ولو كف بكف ... فيقتص للعباد بعضهم من بعض، حتى لا يبقى لأحد على احد مظلمة.( الكافي: 8/ 106، والمحاسن للبرقي، ص 7، وبحار الانوار 6/ 29- 30).

وأما الذنب الثالث فذنب ستره الله على عبده، ورزقه التوبة، فأصبح خاشعاً من ذنبه راجياً لربه، فنحن له كما هو لنفسه، نرجو له الرحمة، ونخاف عليه العقاب.

أقسام العقوبات

العقوبة ثلاثة أقسام:

1- العقوبة التأديبية والتهذيبية:( إلهي لا تؤدبني بعقوبتك).

2- عقوبة الاستدراج والمكر:( ولا تمكر بي في حيلتك).

3- عقوبة التنكيل.

وإليك توضيح هذه العقوبات الثلاثة:

1- عقوبة التأديب والتهذيب

العقوبات التأديبية والتهذيبية متقاربة، ولكنهما يختلفان عن بعض ببعض الاختلاف.

فإن العقوبات التأديبية هي العقوبات التي تنبّه العبد إلى خطأه وزل- له وتوجّهه إلى الاستغفار والتوبة.

والعقوبات التهذيبية هي الابتلاءات التي يواجهها العبد في الدنيا أو في سكرات الموت عند الاحتضار أو في العقوبات التي يلقاها بعد موته ... وهذه الابتلاءات والعقوبات تزيل عنه أوضار الذنوب ورين المعاصي، فتهذبه وتصفيه لدخول الجنة، فإن الجنة دار السلام، ولا يدخلها المؤمنون إلّا بعد أن يتطهروا ويتخلصوا عن كل ما لصق بهم في دار الدنيا من أوضار الذنوب.

والقدر المشترك بين هاتين العقوبتين، أنهما من أبواب رحمة الله تعالى بعباده العاصين، فإن العقوبة التأديبية تنبّه العبد إلى الإقلاع عن الذنب وتوجهه إلى الندم والاستغفار والتوبة. وهذه رحمة من عند الله وفضل منه تعالى لعباده المذنبين.

والعقوبة التهذيبية تخلص العبد من أوضار الذنوب والمعاصي، ليصلح لدخول الجنة، فإن الجنة لا يدخلها المؤمن إلّا بعد ان يتطهّر ويتخلّص من كل ذنوبه ومعاصيه، فهما من أبواب رحمة الله تعالى بعباده وفضله عليهم.

وهاتان العقوبتان، في مقابل عقوبة المكر والاستدراج، ففي عقوبة الاستدراج يستدرج الله العبد العاصي من نعمة إلى نعمة، فيتقلّب في النعم وينسى الاستغفار، فيموت وهو محمّل بالذنوب، معرض عن الاستغفار. وفي عقوبة التأديب التهذيب ينبّه الله العبد إلى الخطر المحدق، وضرورة الإقلاع عن الذنب والإسراع إلى التوبة، ليقلع عن الذنب، ويتحرر من أوزاره قبل أن يموت.

والفارق بين العقوبتين ينشأ من الفارق بين الطائفتين من العصاة والمذنبين.

فإن الطائفة الأولى من المذنبين، رغم اقترافهم للذنوب، وخروجهم عن دائرة الطاعة لم يخرجوا عن دائرة الرحمة الإلهية الواسعة التي وسعت كل شي‌ء، فتشملهم رحمة الله، رغم ما يرتكبون من المعاصي والذنوب، فينبههم الله تعالى بذنوبهم بما يلقون من الابتلاءات في الدنيا إلى الخطر وضرورة الإسراع إلى الاستغفار والتوبة ويذهب الله تعالى بما يبتليهم في الدنيا، وبما يلقون في سكرات الموت عند الاحتضار وبعده ... يُذهب الله تعالى بذلك عنهم أوضار الذنوب، أو يخففه عنهم وهو من رحمة الله وفضله.

وأما الطائفة الثانية، وهم الذين يعاقبهم الله عقوبة المكر والاستدراج، أو عقوبة التنكيل ... فقد أخرجتهم ذنوبهم عن دائرة رحمة الله الواسعة التي لا تضيق بشي‌ء، فيكلهم الله تعالى إلى أنفسهم وشهواتهم وأهوائهم ويُملي لهم بالنعمة بعد النعمة، حتى لا يذكروا ذنوبهم، ولا يندموا على أفعالهم، ولا يستغفروا الله، ولا يتخففوا من أوضارها، كما هم يشتهون ...

وعليه، حتى إذا أذنب الإنسان، يجب عليه ألّا يقطع حبله عن حبل الله، ويبقى حبله موصولًا بحبل الله، لئلّا تخرجه ذنوبه عن دائرة الرحمة، فتشمله رحمة الله، وتعيده إلى الله، وترفع عنه أوضار الذنوب والمعاصي، ليدخل إلى دار السلام.

العقوبات التأديبية

عن سفيان بن سمط قال أبو عبد الله( ع): إذا أراد الله بعبد خيراً، فأذنب ذنباً، اتبعه بنقمة، ويذكّره الاستغفار.

وإذا أراد بعبد شراً، فأذنب ذنباً أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار، ويتمادى بها، وهو قول الله عز وجل: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ‌( بحار الأنوار: 5/ 217، ح 9). وعن الراوندي، قال الصادق( ع):( اتقوا الذنوب، وحذّروها إخوانكم، فوالله ما العقوبة إلى أحد أسرع منها إليكم، لأنكم لا تؤاخذون بها يوم القيامة)( بحار الأنوار: 6/ 57، ح 8).

عقوبة التهذيب

وهذه العقوبة قد تكون في الدنيا على شكل ابتلاءءات تصيب الناس، وتتوالى عليهم في الدنيا لتخفف عنهم الذنوب التي يحملونها، كالأمراض والمصائب التي تصيب الناس.

فإن لم يخلص العبد فيها عن ذنوبه، تهجم عليه عند الموت على شكل سكرات الموت عند النزع- أعاذنا الله منها-.

فإن لم يخلص العبد منها عن ذنوبه تدخل عليه قبره، فيعذب فيه ليتخلص من ذنوبه ومعاصيه.

فإن لم يتخلص منها رافقه العذاب إلى البرزخ.

فإن لم يتخلص منها طال وقوفه عند الحساب حتى يتخلص منها.

فإن لم يتخلص منها ادخله نار جهنم،- نعوذ الله- حتى يتخلص منها في نار جهنم، ويطهر فيها، ليصلح دخول الجنة.

ونتلو عليك الآن طائفة من الروايات الإسلامية في هذا الشأن، عن رسول الله( ص) أنه قال:« إذا مرض المسلم كتب الله له كأحسن ما كان يعمل في صحته، وتساقطت ذنوبه، كما يتساقط ورق الشجر»( مكارم الأخلاق: 195).

وهذه المصائب والابتلاءات تخفف عن المؤمن في الدنيا الذنوب التي ارتكبها في غفلاته وسهوه.

عن الإمام زين العابدين( ع): ما من مؤمن تصيبه رفاهية في دولة الباطل إلّا ابتلي قبل موته ببدنه أو ماله حتى يتوفر حظه في دولة الحق.( مكارم الأخلاق: 195).

وعن أمير المؤمنين( ع) ما من الشيعة عبد يقارف أمراً نهيناه عنه فيموت حتى يبتلى ببلية تمحص بها ذنوبه: إما في مال، أو في ولد، وأما في نفسه حتى يلقى الله عز وجل وما له ذنب، وإنه ليبقى عليه الشي‌ء من ذنوبه، فيشدد به عليه عند موته.( بحار الأنوار: 6/ 157، ح 4).

عن أبي محمد العسكري( ع)، قال: دخل موسى بن جعفر( ع) على رجل قد غرق في سكرات الموت، وهو لا يجيب داعياً، فقالوا: يا ابن رسول الله وددنا لو عرفنا كيف الموت وكيف حال صاحبنا؟

فقال: الموت هو المصفاة تصفي المؤمنين من ذنوبهم، فيكون آخر ألم يصيبهم كفارة آخر وزر بقي عليهم.

وأما صاحبكم هذا، فقد نخل من الذنوب نخلًا، وصُفّي من الآثام تصفية، وخلص حتى نقي كما ينقى الثوب من الوسخ، وصلح لمعاشرتنا أهل البيت في دارنا إلى الأبد.( بحار الأنوار: 6/ 155، ح 10).

وقال رجل لامرأته: اذهبي إلى فاطمة( س) بنت رسول الله( ع) فاسأليها عني: أنا من شيعتكم؟

فقالت: قولي: إن كنت تعمل بما أمرناك وتنهى عما زجرناك، فأنت من شيعتنا، وإلّا فلا. فرجعت وأخبرته.

فقال: يا ويلا، ومن ينفك عن الذنوب والخطايا، فإذن أنا خالد في النار.

فرجعت المرأة فقال لفاطمة( س) ما قال زوجها.

فقالت فاطمة( س): قولي له ليس هكذا. إنّ شيعتنا من خيار أهل الجنة، وكل محبينا إذا خالفوا أوامرنا ونواهينا ليسوا من شيعتنا، وهو مع ذلك في الجنة بعد ما يطهَّرون، ولكن انما يطهَّرون من ذنوبهم بالبلايا والرزايا، أو عرصات القيامة بأنواع شدائدها، أو في الطبق الأعلى من جهنم بعذابها ... إلى أن نستنقذهم بحبّنا منهم، وننقلهم بحضرتنا.( لئالئ الأخبار: ص 458).

وعن محمد بن مسلم قال: قال أبو عبد الله( ع): والله لا يعرف( ظ) عنه هذا الأمر فتطعمه النار؟

قلت: إن فيهم من يفعل ويفعل.

فقال: إنه إذا كان كذلك ابتلى الله أحدهم في جسده، فإن كان ذلك كفارة لذنوبه، وإلّا ضيّق الله عليه في رزقه، فإن كان ذلك كفارة لذنوبه، وإلّا شدد عليه عند الموت، حتى يأتي الله ولا ذنب له، ثم يدخله الجنة.( بحار الأنوار: 6/ 160، ح 26)

وعن المفضل، قال: قال أبو عبد الله( ع): يا مفضل، إياك والذنوب، وحذرها شيعتنا، فوالله ما هي إلى أحد أسرع منها إليكم، إن أحدكم لتصيبه المعرّة من السلطان، وما ذاك إلّا بذنوبه، وأنه ليحبس عليه الرزق، وما هو إلّا بذنوبه، وأنه ليشدّد عليه عند الموت، وما هو إلّا بذنوبه.

فلما رأى ما قد دخلني قال: أتدري لم ذاك يا مفضل، قال: قلت: لا أدري جعلت فداك.

قال: ذاك والله أنكم لا تؤاخذون بها في الآخرة، وعجلت لكم في الدنيا.( بحار الأنوار: 6/ 157، ح 15)

وهذه العقوبة، رغم أنها داخلة في دائرة رحمة الله الواسعة إلّا أنها صعبة عسيرة.

عن الإمام الصادق( ع)، عن رسول الله( ع): أن العبد ليحبس على ذنب من ذنوبه مائة عام، وأنه لينظر إلى أزواجه في الجنة يتنعمن.( الكافي: 2/ 272)

وهذا هو النحو الاول من العقوبة التي يشير إليها الإمام زين العابدين( ع) في دعاء الأسحار بقوله:( إلهي لا تؤدبني بعقوبتك). 2- عقوبة الاستدراج والمكر

وهي النحو الثاني من العقوبات الإلهية. ظاهرها النعمة، وباطنها النقمة، بعكس عقوبة التأديب والتهذيب التي كان ظاهرها النقمة وباطنها الرحمة.

في هذه الطائفة من العقوبات يتقلب المجرمون من عافية ونعمة إلى عافية ونعمة. ويُمِدُّهم الله تعالى ويمهلهم ويملي لهم ... وهذا الإملاء والإمهال نحو من مكر الله تعالى بالمجرمين، فيغفلوا عن ذكر الله والاستغفار، ويغلبهم الطيش والغرور، حتى يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.

وإنما يكلهم الله تعالى إلى أنفسهم، ويستدرجهم بالنعم، وينسيهم الاستغفار والتوبة، لأنهم اختاروا الاعراض عن رحمة الله ... ومن يعرض عن رحمة الله فلا تشمله الرحمة، لا لأنّ الرحمة الإلهية تضيق بأحد، فإن رحمة الله لا تضيق بشي‌ء، والعبد شي‌ء من الأشياء، وإنما لأنهم- أي المجرمون- أصرّوا على الإعراض عن رحمة الله، والدخول في دائرة مشاققة الله ومحاربته والتمرد عليه ... فيكلهم الله إلى أنفسهم، كما أرادوا، فلا تصيبهم معرّة، أو ابتلاء في الدنيا، كما يصيب المؤمنين، وإنما يتقلبون في النعمة والعافية، حتى ينقض عليهم الأجل، فيأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.

وهذا هو الإملاء والاستدراج.

ومعنى الإملاء: الإمهال، فلا يعجّل الله بعذابهم كما يعجل بعذاب المؤمنين لينتبهوا من غفلاتهم، بل يمهلهم، ليمعنوا في التمرد والإجرام والإفساد، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

ومعنى الاستدراج أن يفسح الله لهم الطريق إلى المعاصي والذنوب، فيتدرجوا من عصيان إلى عصيان ومن إجرام إلى إجرام، دون ان يعيقهم إليه عائق من ابتلاء، أو مصيبة، كما يصيب المؤمنين المذنبين ... وكأنما الله تعالييستدرجهم إلى ما يطلبونه من المعاصي والجرائم استدارجاً.

يقول تعالى: وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ* وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ‌( الأعراف: 182- 183)

توضيح للاستدراج

يستخدم البوليس طريقة( استدراج المجرمين) لإثبات الجريمة بالجرم المشهود، فيراقبون المجرم عن كثب، في جميع مراحل ارتكاب الجريمة، دون أن ينتبه إلى هذه المراقبة ليلقوا عليه القبض، وهو متلبس بالجريمة ... وذلك لغرض إثبات الجريمة بالجرم المشهود المحسوس.

ويجري نفس العمل في سنن الله تعالى، ولكن لغاية أخرى، وليس لإثبات الجريمة ... فإن جوارحهم تشهد عليهم بما أجرموا يوم القيامة، ولا حاجة إلى استدراجهم لإثبات الجريمة عليهم بالحسّ والشهود يوم القيامة.

وإنما يجري استدراج المجرمين في سنن الله تعالى لغرض تفعيل ما في نفوسهم ونيّاتهم من شرّ أو خبث، ونقصد بالتفعيل المعنى الفلسفي لهذه الكلمة، وهو الخروج من القوة إلى الفعلية.

فإن المجرمين يحملون في أنفسهم ونيّاتهم شراً وخبثاً كثيراً، كما يحمل الصالحون في نفوسهم خيراً كثيراً ... وكما يتمنّى الصالحون ان يوفقهم الله لتفعيل هذا الخير وإبرازه وتحقيقه، كذلك يتمنى المجرمون ان يحقّقوا ما في نفوسهم ونيّاتهم من شرّ وخبث ودناءة. فيفعّل الله لكل منهما ما يحبون ويتمنون.

والتفعيل الأول هو الاستدراج.

والتفعيل الثاني هو التوفيق.

والتوفيق في مقابل الاستدراج ومعنى الاستدراج- بناءً على ذلك- هو تفعيل ما يريده ويطلبه المجرمون من إجرام وإفساد.

كما أن التوفيق هو تفعيل ما يطلبه الصالحون من صلاح وخير وإصلاح.

ويتم هذا وذاك ضمن سنن الله تعالى فإن نواة التفاحة ونواة الشوكة تحملان بالقوة كل ما في التفاحة من نفع وفائدة، وكلما في الشوكة من أذى وضرر ... والله تعالى يفعل هذه وتلك في نظام الخلقة العام.

ولابد في نظام الخلقة العام من التفاحة والشوكة والصحة والمرض والخير والشرّ معاً.

وفي نفس الإنسان خير وشرّ، وعدل وظلم، فاذا كان الغالب عليه هو الخير وفقه الله تعالى للخير، وخلّصه مما في نفسه من شرّ بما في نفسه من الخير.

وإذا كان الشرّ غالباً أعانه الله على ما في نفسه من شرّ للتخلص منه، ووفقه لما في نفسه من خير.

فإذا تمادى الإنسان في الشرّ والضلال وَكّله الله إلى نفسه ... عندئذٍ يتمكن الشرّ من نفسه، ويطغى الشرّ على نفسه ونيّته وعمله، وهذا هو موضع الاستدراج في سنن الله تعالى.

فيملي له الله تعالى فيما يريد من ذنب وعصيان، ويمهله ليتمادى في عمله، ولا يبتليه فإن الابتلاء يصدّ صاحبه عن التمادي في الغي والشرّ.

وحيث ان هؤلاء المجرمين أعرضوا عن رحمة الله، وخرجوا من دائرة الرحمة الإلهية الواسعة التي وسعت كل شي‌ء، فلا ينالون هذه الرحمة بالضرورة.

وعليه، فإن الله يمهلهم ليتمادوا في غيّهم، ويحققوا كل ما يطلبون من شرّ وفساد.

سئل أبو عبد الله الصادق( ع) عن الاستدراج، فقال: هو العبد يذنب الذنب، فيملي له، ويجدد له عنده النعم، فيلهيه عن الاستغفار من الذنوب، فهو مستدرج من حيث لا يعلم.( بحار الأنوار: 5/ 218، ح 11)

وروي عن أمير المؤمنين( ع):« أيها الناس ليراكم الله من النعمة وجلين، كما يراكم من النقمة فرقين. إنه من وُسِّع عليه في ذات يده، فلم يرَ ذلك استدراجاً فقد أمِنَ مخوفاً، ومن ضُيِّق عليه في ذات يده، فلم يرَ ذلك اختباراً فقد ضيع مأمولًا».( نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: ص 536، الكلمة/ 358، من الكلمات القصار)

والإمام( ع) يشير هنا إلى أمن وخوف في غير موضعهما.

أما الأمن فهو ان يتقلب الإنسان في النعم، فيأخذه الغرور، ولا يحسب أنه قد يكون ذلك استدراجاً له ... وهذا هو الإحساس الكاذب بالأمن.

وأما الخوف والقلق الخاطئ فهو ان يواجه الإنسان ابتلاءً، فيقلق فيها، ويخاف منها، ولا ينظر إليها من منظار الاختبار الإلهي لعبده، فيخسر وعي باب من أبواب رحمة الله تعالى بعباده، وهو الابتلاء والاختبار.

وهذا هو النحو الثاني من العقوبات الإلهية، التي يشير إليها الإمام زين العابدين( ع) في دعاء الأسحار حيث يقول( ع):( ولا تمكر بي في حيلتك).

فإنه وإن كان ظاهره النعمة، فإن باطنه النقمة والعذاب، وعلى العبد ان يعوذ بالله تعالى ان يمكر به في حيلته، ويستدرجه إلى معصيته ومخالفته.

3- عقوبة التنكيل والاستئصال

نقرأ في دعاء الافتتاح:( وأيقنت أنك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة، وأعظم المتجبرين في موضع الكبرياء والعظمة).

نتسائل لماذا كان الله تعالى( أرحم الراحمين) في موضع العفو والرحمة، وكان( أشد المعاقبين) في موضع النكال والنقمة ... وكان يناسب رحمته ان يكون أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأخف المعاقبين في موضع النكال والنقمة.

والجواب، أن الله تعالى مطلق في كل شي‌ء شديد في كل شي‌ء، وهو فعّال لما يريد ... فإذا أراد الرحمة كان شديد الرحمة، أرحم الراحمين، وإذا غضب وسخط على عبده- معاذ الله- كان أشدّ المعاقبين، ولكن رحمته أوسع من غضبه وقبل غضبه، وغضبه من عدله، ورحمته من فضله، ونحن نعوذ برحمته، وفضله من عدله.

ولذلك فلا يأمن العبد عقاب الله، لأنه أشدّ المعاقبين، ولا يخيب عن رحمة الله، لأنه أرحم الراحمين، ويتردد العبد بين رجاء الرحمة ومخافة العقوبة ... بين الخوف والرجاء، وهذه هي العلاقة الصحيحة بالله تعالى. والاستدراج في الدنيا، والعقوبة في الآخرة كل منهما حاصل من غضب الله تعالى.

إلّا أن الاستدراج يختص بالدنيا، وعذاب التنكيل يعمّ الدنيا والآخرة، وهذا هو الفرق الأول بين العقوبتين.

والفرق الآخر أن عقوبة الاستدراج ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، وعقوبة التنكيل ظاهرها العذاب وباطنها العذاب. وهذا هو الفرق الثاني بين عقوبة الاستدراج وعقوبة التنكيل.

يقول تعالى في تعميم عقوبة التنكيل للدنيا والآخرة: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ* فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى‌ وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ‌.( فصلت: 15- 16)

ويقول تعالى فيما أنزل على قوم لوط من العقوبة والعذاب في الدنيا:

فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ* مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَ ما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ.( هود: 82- 83)

ويقول تعالى عن العقوبة التي انزلها بإبرهة وجيشه من أصحاب الفيل:

أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ* أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ* وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ* تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ* فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ‌.( الفيل: 1- 5)

ويقول تعالى عن العذاب الذي أنزل على ثمود:

فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ‌.( الذاريات: 44)

والفرق بين عقوبة التنكيل والعقوبات التأديبية التي تنزل على المذنبين من المؤمنين في الدنيا، أن الأولى عذاب الاستئصال كما نزل بقوم لوط، وثمود، وأصحاب الفيل، والسبت، وقوم صالح، والثاني عذاب تنبيه وتذكير.

وإذا نزل عذاب التنكيل والاستئصال بقوم، فلا ينفعهم إيمانهم ودعاؤهم لرد العذاب إلّا ما كان من قوم يونس ... فقد نزل بهم العذاب، ولكنهم لما لجأوا إلى الله بالدعاء والتضرّع والتوبة، دفع الله عنهم العذاب.

فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى‌ حِينٍ‌.( يونس: 98)

وهذه العقوبة كالعقوبة السابقة لا تنزل بقوم إلّا عندما يعرضون عن رحمة الله إعراضاً كاملًا، وعندئذٍ يخرجون عن دائرة رحمة الله.

وحسبك في هذه العقوبة أنها تنزل بالإنسان عن غضب الله وسخطه الذي لا تطيقه الجبال الرواسي ولا تقوم له السماوات والأرض، نعوذ بالله من غضبه وسخطه.

وعن هذه العقوبة ومقارنتها بما يبتلي الله تعالى عباده في الدنيا من أنواع الابتلاء ... يقول أمير المؤمنين( ع) كما في رواية كميل بن زياد( رحمه الله) في دعاء كميل:

« وأنت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا وعقوباتها، وما يجري فيها من المكاره على أهلها ... على أن ذلك بلاء ومكروه قليل مكثه، يسير بقاؤه، فكيف احتمالي لبلاء الآخرة، وجليل وقوع المكاره فيها، وهو بلاء تطول مدته، ولا يخفف عن أهله، لأنه لا يكون إلّا عن غضبك وانتقامك وسخطك، وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض، يا سيدي، فكيف بي، وأنا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين».

ثم يذكر الإمام( ع) أن اعظم ما في هذه العقوبة هو شعور العبد، في نار جهنم، أن الله أبعده عنه، وحكم بفراقه له، وأنه تعالى لا يحب جواره وقربه، وأنه يمقته وغاضب عليه، إن هذا الإحساس لدى العبد، وهو يعذب في نار جهنم أشدّ شي‌ء عليه في هذه العقوبة، رغم كلّ قساوة نار جهنم وضراوتها وعذابها، فاستمع إليه( ع) كيف يصوّر حالة العبد في نار جهنم، وهو يشعر بأن الله غاضب ساخط عليه، مفارق له، وحاشره مع أعدائه في مكان واحد.

« فلئن صيّرتني للعقوبات مع أعدائك، وفرّقت بيني وبين أحبائك وأوليائك ... فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربي صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك، أم كيف أسكن في النار ورجائي عفوك ....

ثم يقسم( ع) ... إنْ لو تركه الله مع أعدائه في نار جهنم، وأقصاه عن قربه وأحبائه ... أن يعلن في وسط نار جهنم، ومن بين أعدائه ومناوئيه- لو تركه ناطقاً- عن حبّه له، وعظيم رجائه به، وأمله في رحمته، ويضج إليه في وسط نار جهنم ضجيج الآملين، ويطلبه بصراخه وعويله، ويبكي لفقده وفراقه، بكاء الفاقدين ... استمع إليه( ع):

« فبعزتك يا سيدي أقسم صادقاً لئن تركتني ناطقاً لأضجنّ إليك بين أهلها ضجيج الآملين، ولأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين، ولأبكينّ عليك بكاء الفاقدين، ولأنادينّك: أين كنت يا ولي المؤمنين، يا غاية آمال العارفين، يا غياث المستغيثين، يا حبيب قلوب الصادقين».

العلاقة بين الذنوب والعقوبة

يبقى ان نشير إلى العلاقة بين العمل والجزاء، في سياق الحديث عن الذنوب والعقوبات ... وهذا البحث من رقائق الثقافة القرآنية.

قد تكون العلاقة بين العمل والجزاء من نوع العلاقات التشريعية كالعلاقة بين جريمة شرب الخمر والجلد والعقوبات الواردة في التشريع كلّها من هذه القبيل ... وهذه العقوبات تخصّ الحياة الدنيا.

النوع الآخر من العقوبات، العقوبات التي تقع موقع النتيجة والجزاء الطبيعي من الجريمة والعلاقة بينهما من نوع العلاقة بين الأسباب والمسببات كالعلاقة بين الظلم وما يصيب الظالم من سوء العاقبة ... فإن الظالمين يلاقون في هذه الدنيا نتائج أعمالهم قبل الآخرة ... وقد عاصرنا كثيراً من الظالمين أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، ولقوا في هذه الدنيا نتائج عدوانهم وظلمهم ... يقول تعالى: وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ‌.( فاطر: 43)

فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ‌.( الأنعام: 10)

فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ‌.( النحل: 34)

وهذه العقوبات تعم الدنيا والآخرة، وهي بحكم نتائج أعمال الإنسان في سنن الله تعالى.

والنوع الثالث من العقوبات عقوبة المجرمين بنفس جرائمهم ... فإن لأعمال الإنسان ظاهراً في هذه الدنيا، وباطناً في الآخرة، فإذا انتقل الإنسان من الدنيا إلى الآخرة وجد أعماله أمامه قد سبقه إليها، غير ان هذه الأعمال أحضرت له هذه المرة بصورة أخرى غير التي كان يعرفها في الدنيا، وهي باطن الأعمال وجوهرها.

فإن لأعمال الإنسان صورة ظاهرة في الدنيا، وحالة باطنة هي جوهر العمل وروحه، والذي يحضر للإنسان من عمله في الآخرة هو باطن العمل وليس ظاهره.

يقول تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً.( آل عمران: 30)

ويقول تعالى: وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً.( الكهف: 49)

ويقول تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ* فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‌.( الزلزلة: 7- 8)

وهذه الآيات وأمثالها في القرآن ظاهرة في أن أعمال الإنسان نفسها تنتقل إلى الآخرة.( راجع في توضيح وتفصيل هذا البحث الكتاب القيم:( العدل الإلهي)، للشهيد الشيخ مرتضى المطهري، فصل« عذاب الآخرة»).

وأن الإنسان عندما يحشر يواجه عمله الذي قدّمه بين يديه إلى الله( يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا( والذي يحضر للإنسان في الآخرة هو عمله من خير أو شرّ.

غير أن الذي يعرفه الإنسان من عمله في الدنيا هو ظاهر عمله، ولأعمال الإنسان ظاهر يعرفه في الدنيا، وباطن يعرفه ويلقاه في الآخرة، وهو يختلف اختلافاً نوعياً عمّا يعرفه من ظاهر عمله في الدنيا.

فالذي يأكل الأموال اليتامى ظلماً، لا يعرف من عمله إلّا هذه الصورة التي ترغّبه وتشهّيه في هذا الإثم، وهو التمتع بأموال الأيتام ... ولهذا الإثم صورة أخرى، هي باطن العمل، تظهر له في الآخرة، وتلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‌ ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً( النساء: 10)

وهذه النار التي يلقاها الإنسان في الآخرة هي باطن هذا الإثم، ولو كان يشهد باطن في عمله في الدنيا لم يرتكبه قطّ.

ويقول تعالى: وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ‌.( الحجرات: 12)

إن للغيبة ظاهراً وباطناً ... أما الظاهر منه فهو الذي يشهّي الناس ويرغبهم فيها، وأما باطنها فهو أكل لحوم الأموات. وفي الحياة الدنيا لا يرى الناس إلّا هذا الظاهر الذي يشهّيهم في الغيبة، ولو كانوا يرون باطن الغيبة، ويعرفون أنهم يلوكون بالغيبة لحوم إخوانهم لاشمأزوا ونفروا من الغيبة.

إنّ ما يلقاه المجرمون في نار جهنم من عذاب وسعير إنما هي أعمالهم تجسدت لهم في الآخرة بهذه الصورة ... وكذلك العكس ما يلقاه المؤمنون أصحاب التقوى والعمل الصالح من نعيم ورحمة في الجنة هو أعمالهم الصالحة تلقوها في الآخرة بهذه الصورة الجديدة التي لم يألفوها من قبل في الدنيا.

إن عمل الإنسان لا ينعدم من خير أو شر، فإذا مات الإنسان واجه عمله بعينه، غير أنه في الآخرة يظهر له بشكل آخر غير ما كان يعرفه في الدنيا.

العفو والرحمة

ولا يسعنا أن نختم الحديث عن العقوبة والعذاب الإلهي إلّا ان نشفعه بالحديث عن عفوه ورحمته تعالى، فإن رحمته وسعت كلّ شي‌ء، والعبد مهما بلغ ذنبه شي‌ء من الأشياء، وعفوه قبل غضبه وأوسع من غضبه.

روى الكراجكي في( الكنز) عن عطاء بن يسار عن أمير المؤمنين( ع)، قال:« يوقف العبد بين يدي الله تعالى، فيقول: قيسوا( قارنوا) بين نعمي عليه وبين عمله».

فيستغرق النعم العمل.

فيقولون: قد استغرق النعم العمل.

فيقول: هبوا له النعم، وقيسوا بين الخير والشرّ منه.

فإن استوى العملان أذهب الله الشرّ بالخير، وأدخله الجنة، وإن كان له فضل( أي كانت حسناته تغلب سيئاته) أعطاه الله بفضله. وإن كان عليه فضل( أي كانت سيئاته تغلب حسناته)، وهو من أهل التقوى، ولم يشرك بالله تعالى، واتقى الشرك، فهو من أهل المغفرة، يغفر الله له برحمته إن شاء، ويتفضل عليه بعفوه).( بحار الأنوار: 5/ 334- 335)

وفي هذا الحديث يأمر الله تعالى أن يقاس عمل العبد لله تعالى بنعم الله عليه أولًا، استغرق النعم العمل، قالت الملائكة لقد استغرقت النعم العمل.

وحيث تستغرق النعم الحسنات، فلا محالة تبقى السيئات مكشوفة لا يغطيها شي‌ء، فيأمر الله تعالى ملائكتة بإلغاء المقارنة الأولى، والحساب على المقارنة الثانية.

فيقول:( هبوا له النعم، وقيسوا بين الخير والشرّ منه) وهناك المقارنة تكون بين حسناته وسيئاته.

وهي لا تخلو من ثلاث حالات:

فأما أن تفضل حسناته على سيئاته، أو تتساوى سيئاته وحسناته، أو تفضل سيئاته على حسناته.

فإن تساوت حسناته وسيئاته أذهب الله الخير بالشرّ، كما في الرواية.

وإن فضلت حسناته على سيئاته وكان له فضل أعطاه الله بفضله.

وإن فضلت سيئاته على حسناته وكان صاحبها من أهل التقوى، ويتّقي الشرك بالله غفر الله له برحمته.

اسم الکتاب : دعاء الأسحار للإمام علي بن الحسين السجاد برواية أبي حمزة الثمالي المؤلف : الآصفي، محمد مهدي    الجزء : 1  صفحة : 10
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست