ويدلك على ذلك أنه لو لم يكن الصانع لهذا العالم عارفاً بالأمور
عالماً بالأشياء لما استطاع أن يتقن صنع شيْ من الأشياء وأمر من الأمور فيركب بدن
الإنسان بهذا النحو من التركيب الذي يدهش الأنظار ويستوقف الأفكار فأن من لا معرفة
له ولا علم لديه لا يستطيع أن يكون من الطين على هيكل الإنسان وشكله فضلًا عن أن
يكونه من لحم ودم وعظام وشحم ويودعه تلك القوة العجيبة والأسرار الغريبة ويكفيك
شاهداً على ذلك ما نراه من الدقة في خلق بعض أصناف الطيور حيث جعل لها أرجلا تمشي
بها وعيوناً تبصر بها وأجنحة تطير بها وفماً تأكل به وحساً تدرك به وريشاً يقيها
الحر والبرد مع ما هي عليه من صغر الجسم ولطافة الشكل أ ترى هل يمكن لعاقل أن يقول
أن هذه الأفعال صدرت عن غير عارف بالأمور وعالم بالأشياء! ثم هلم وأنظر إلى النحل
وما يشبهه والعنكبوت وما يماثله كيف أعطاها خالقها قوة على بناء بيوتها ومساكنها
بهذه الدقة العجيبة والكيفية الغريبة وهذه الهيئة البديعة فأن في ذلك دلالة واضحة
وآية بينة على أن خالقها وخالق سائر الأشياء عالم غير جاهل.
المسألة الثالثة في إنه قادر على كل شيء
ويرشد إلى ذلك ما نشاهده في الخارج من أنه من كانت له قدرة على صنع
شيء بذاته بلا حاجة إلى غيره كان متمكناً من صنع جميع أنواع ذلك الشيء بنفسه من
دون حاجة إلى من سواه فإنه من تمكن أن ينطق لسانه بلغة من اللغات كان قادر على
النطق فيها بسائر الكلمات والنار التي يحترق الحطب اليابس فيها يحكم العقل بأن كل
حطب يابس يحترق بها والإنسان إذا نظر ببصره الشيء القريب بلا واسطة يحكم عقله
بأنه يستطيع النظر لكل شيء قرب منه وإذا كان الأمر كذلك ظهر لك أن من صنع هذه
الممكنات وكان علة تامة لإيجادها وسبباً كاملًا لتكوينها يكون قادراً على إيجاد
سائر الممكنات لما تبين لديك من أن من كان قادراً على شيء بذاته ونفسه كان قادراً
على ما هو من سنخه ونوعه. والسر في ذلك هو أن العلة التامة لشيء تكون علة لجميع
ما ماثل ذلك الشيء و شاكله وإلا لزم الترجيح بلا مرجح فصانع هذا العالم لما كان
علةً لإيجاد الأمور المعدومة الممكنة وإلا لما تمكن من إيجاد هذا العالم وإخراجه
من العدم إلى الوجود فكل شيء معدوم ممكن يقدر على إيجاده و إلا لزم الترجيح بلا
مرجح وهو محال وهذا الدليل كما يثبت أنه قادر على كل شيء كذلك يثبت أنه عالم
بجميع الأشياء فتدبر: وإن شئت أن تزداد بصيرة في ذلك فتفكر في صنع هذا العالم بما