ثم تلك الأسباب وهاتيك الدواعي قد يطلع
عليها العقل من دون وسط كدواعي قبح الظلم وكبر الأبرار وشتم الأخيار أما بالضرورة
أو بالنظر وقد يحتاج فيه إلى وسط فيحتاج فيه إلى الشرع فالعقل إذا حاكم مستقل يقبح
إذا اطلع على مفسدة صرفة ويحسن إذا اطلع على مصلحة صرفة وادعوا أن نعرة العقل عن
بعض الأفعال وميله إلى بعض ضروري وجداني يدرك بالبديهة على نحو اشمئزاز بواسطة
السمع والبصر والذوق واللمس من منافيات الطبع وادعوا أن هذا يعرفه منكر والشرائع
ومن لم يسمع بطرائق الشرع أو سمع ولم يعقلها كالأطفال والصبيان واستندوا في إثبات
ذلك أيضاً إلى أنه من دونه يفسد الشرع وتقحم الأنبياء. ويلزم أن لا يقبح من الله
شيء فيحتمل كذب الأنبياء وعدم تصديق المعجز وكذا كذب الوعد والوعيد وكذا أن يأمر
بخلاف ما يريد وينهى عما يريد وأن يعاقب المطيع ويثيب العاصي مع أن الآيات
القرآنية والأخبار النبوية والمواعظ في الخطب مملوءة من تعليل الأحكام بالمصالح
كما لا يخفى، مع أن الأشعري ينفيه مبتغوه في مقام الوعظ والنصح والأمر بالمعروف
وتهذيب الأخلاق بل مبنى حجية القياس وطريقته على ذلك بل أعمالهم مبنية عليه فإن
السيد منهم والأب والولي يعاقب ويستند في ذلك إلى قبح العقل وقد لا يخطر بباله
الشرع ولا يذم على ذلك ولا يعاب عليه وإرجاع هذه الأمور إلى المعاني التي ادعوا
الإجماع عليها بعد تسليمها وإنها قول لقدمائهم إلّا وجه له لأن معظم ما ذكرنا
يتعلق بأمر المدح والذم وهو المدعى.
وأما الأشاعرة فقد منعوا ذلك وادعوا أنهما بمحض الشرع ومن دونه لا
حسن ولا قبح بل الأمر يدور مدار أمره ونهيه فلو أمر بالقبيح صار حسناً ونهى على
الحسن صار قبيحاً فلا موجب إلّا الله والمحظور ما حظره الله، واستندوا في ذلك إلى
أن جميع الأشياء على السوية ليس لأحدها رجحان على الآخر إلّا بأمر إلهي وبيان
رباني ثم على حصول الرجحان فأمور الشرع لا تبنى عليه إذْ أوامر الله لا تتبع
الأغراض إذْ ربنا منزه عن الفرض وإلا لزم النقص والاحتياج