responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : الكلم الطيب المؤلف : كاشف الغطاء، علي    الجزء : 1  صفحة : 18

ألا وإن في هذا النحو من السير نحو الرحمة المطلقة بالتجرد لله من شوائب الخيلاء ومن مظاهر الكبرياء، في طهارة للنفس من الأدران والأدناس في جميع الحركات والسكنات، وإضعاف لسلطان القوة والشهوة بالامتناع عن الملذات يكون نوعاً من الترهب بأسمى أنواعه، وصنف من التصوف بأفضل أصنافه، وأحسن أوضاعه. إذ ليس فيه الانقطاع عن الخلق بالكلية الذي فيه مرارة الانعزال عن الناس طول الزمن والتوحش مدة العمر من مسرات المدنية وسكنى الوطن، فمن أراد الترهب والتصوف فليقم بهذا العمل المجيد فإن فيه المنى والأمل.

بَيدَ أن في الحج تقوى العبودية لله تعالى، فإن العبادة كلما بعدت عن ميل النفس لها، ولم يدرك العقل نفعها، تمحض إتيانها لأمر الله وتجرد الانقياد بها لإرادة الله، حيث لا يخالط الخضوع بها الحب لفعلها ولا يشترك في التقرب بها الميل لإتيانها. وهذا ما يوجب شدة الربط بذات الله المقدسة وقوة الانقطاع إليه. وفي الحج تلمس هذا الأمر فيه فإن فيه أعمالا وأفعالا لا تأنس بها العقول ولا ترغب فيها الطباع، ولا تأمن بحسنها النفوس، كالسعي بين الصفا والمروة بالتكرار والوقوف بعرفات لآخر النهار، ورمي الجمرات بالأحجار، بخلاف الصلاة فإنها تشتمل على أقوال تنطلق الألسنة بها لتضمنها الدعاء والاستجداء لسلوك طريق الخير والهداية لصراط النعمة وهو ما تتطلبه النفوس بذاتها وتشتمل على أفعال وأعمال من ركوع وسجود وقيام تهواها الأفئدة لترويض عضلاتها وأعضائها، وبخلاف الزكاة فإن فيها العطف على الفقراء وسد الحاجات وهو مما تندفع له الطباع، وتميل إليه الذوات، ولذا نجد الإحسان على ذوي الحاجة حتى من أهل الكفر والضلالة، وبخلاف الصوم فإن أولي الألباب يحكمون بعظيم نفعه وحسن فعله لصحة الأبدان والوقاية من العلل والأسقام.

أما الحج فلا تدرك العقول الوقوف في عرفات منه الفائدة، ولا في الوقوف بالمشعر المصلحة، ولا في الرمي ولا في السعي الثمرة، ولا تميل لهذا ولا لذاك الطباع ولا ترغب النفوس لهنا وهناك فكان في العبودية أبلغ من غيره وفي الانقياد والطاعة أكثر من سواه.

كلمة في الجهاد وبواعثه في الشريعة الإسلامية

عوامل الجهاد في الإسلام ثلاثة:

العامل الأول: الجهاد لاعتناق ونشر الدعوة الإسلامية، وهو محاربة الكفار في عقر دارهم لرفع مستواهم في عالم العلم والعمل، والظاهر أن الآيات والروايات التي أخذ منها القتال في سبيل الله ناظرة لهذا النوع من الجهاد لأن الحرب إنما تكون في سبيل الله إذا كان المقصود منها رفع مستوى المحَارب- بفتح الحاء- دون النفع الشخصي للمحِارب- بكسر الراء- وإلا لكان الحرب في سبيل النفع الذاتي لا في سبيل الله تعالى، ويدل على وجوب هذا النوع من الجهاد على المسلمين الآيات الكريمة المتضافرة وقد جمعتها جمعا مستوفيا كتب آيات الأحكام للجزائري والآردبيلي والجصاص والفاضل المقداد وغيرهم، كما تدل عليه الأحاديث الشريفة المتعاضدة، وقد ذكرها العلماء في كتبهم الفقهية الاستدلالية، وفي كتب الحديث والرواية هي تدل بمنطوقها على وجوب جهاد اليهود حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية وهم صاغرون.

وقد يمنع من هذا النوع من الجهاد من ناحية الشرع وأخرى من ناحية العقل. أما المنع منه من ناحية الشرع فمن جهة الأدلة الدالة على حرمة إلقاء النفس في التهلكة ولأدلة (لا ضرر ولا ضرار). والجواب عن ذلك من حيث الصناعة واضح فإن هذه الأدلة عامة وأدلة الجهاد أخص منها، والخاص مقدم على العام ومن حيث منطق الواقع فإن الضرر والتهلكة في سبيل تحقق الصالح العام لا يمنع منه الإسلام، فالحدود قد شرعها الإسلام مع ما فيها من التهلكة والضرر لما فيها من المصلحة العامة من حفظ النفوس ومحاربة الجرائم.

وأما المانع من الجهاد المذكور من ناحية العقل فقد ذكر بعض منقدي الإسلام أن هذا الجهاد يتركز على جعل السلطة والقوة على الغير وحرمانهم من أهم حقوقهم الطبيعية، فإنه يمنع من حرية الرأي في العقيدة الدينية والتصرف في مقدراتهم الحيوية. ولكن الذي ينظر في مشروعية هذا النوع من الجهاد وشرائطه والأهداف منه يرى أن هذا الادعاء لا مساس له بواقع الحال. فقد جاء الإسلام وفاجأ شعوباً خشنة الطباع لا يلمها نظام ولا تثقفها آداب، غصت بالمنازعات الشخصية متنافرة بالفوارق الاعتبارية فيها مصطلحات استأثرها شكل اجتماعها الفردي. اجتماع لا يقدم المرء فيه إلا قواه ومميزاته الخاصة به فجاء الإسلام واستعمل جميع طاقاته فهدم تقاليد الإلحاد، واستأصل العادات القبيحة، ونشر الآداب الحسنة وأراح تلك الشعوب من الاستبداد والاستعباد الذي أرهق العالم صعودا وجشمه كئودا، وخلصه من تقاليد لا يطاق حملها، وجردها عن عقائد تشبه الألغاز والأحاجي في إبهامها وغموضها، وهيأ الشعوب بجهاده المتواصل في أدوار جديدة لحياة سعيدة موفورة بالحرية والأمان بعد أن غلب عليها الشقاء وألبسها الحضارة بعد أن كانت بعيدة عن مفاهيم الناس بُعدْ الأرض عن السماء. ولولا الجهاد الذي قام به الأبطال الأشاوس والدماء التي أرخصت في سبيل الله لما ظفر العالم الإنساني بهذه الحضارة، فإن التأريخ يشهد أن الحضارة صارت بالإسلام، وانتقلت للغرب من المسلمين. وأني لأرى الموجه لهذا النقد المذكور على الإسلام والمسلمين الذين جاهدوا في سبيل الله نظير من يوجه النقد على مربي الطفل ومعلم العلم للجاهل.

العامل الثاني: هو حفظ بيضة الإسلام من تعدي الكفار عليهم ودفع العداء عنهم. والواجب في هذا المقام أن حصل ما به الكفاية في رد المعتدين سقط الوجوب عن الباقين وإلّا وجب على المسلمين كافة، فمن له القدرة على الدفاع كما هو واقع الحال في فلسطين. وهذا النوع مما حكم بوجوبه الشرع والعقل.

أما الشرع فلقوله تعالى: [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ‌]. وقوله تعالى [فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ‌].

وأما العقل فلأنه حاكم بوجوب حفظ النفس ودفع الضرر عنها، ولا ريب أن عبث الأعداء بالمسلمين وتعديهم عليهم فيه أعظم الضرر والشر على نفوسهم، كيف وبه يحفظ استقلال الأمة وتحفظ كرامتها وتؤمن حريتها؟ وإنما كان الوجوب سبيل الكفاية لأن الغرض منه هو دفع الشر فإذا إندفع الشر، بالبعض حصل الغرض، وبحصوله يسقط الغرض. ولعل الواجبات التوصلية النوعية كلها من هذا القبيل. وهذا النوع من الجهاد مصاديقه البينة قضية فلسطين.

العامل الثالث: الجهاد لدفع الأعداء عن بلاد المسلمين وإخراجهم منها بعد التسلط عليها، وإصلاح بيضة الإسلام بعد كسرها وثلمها، والسعي في نجاة المسلمين من أيدي الطغاة المعتدين وهذا النوع من الجهاد من أبرز مظاهر أفراده قضية فلسطين. فقد فتكت اليهودية في بلاد الإسلام فتك الطاغية المستبد، وعانوا منهم آلآماً ثقيلة، وخلعوا عليهم أسمال الجدب، وظهرت بهم كلمة الباطل، وانهار صرح الإيمان. فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقد أفتى جدنا الأعلى الشيخ جعفر كاشف الغطاء (قدس سره) بأن هذا الجهاد أفضل أنواع الجهاد، وأعظم وسائل القرب لرب العباد. ويدل على وجوبه ما دل على وجوب النوع الثاني من الجهاد، وفي هذه الأنواع الثلاثة كما يجب على المسلمين يجب على أولياء أمرهم أن يجندوا الجنود ويهيئوا ما به الكفاية من العتاد والسلاح لضرب الأعداء ولو بالأخذ من أموال المسلمين بقدر ما به الحاجة لفحوى قوله تعالى: [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ‌].

وعلى المسلمين وولاتهم إذا لم يكونوا فقهاء أن يراجعوا فقهاء المسلمين في هذه الأنواع الثلاثة للجهاد حتى لا يكون عملهم وحكمهم على خلاف حكم الله (عز و جل)، فقد دلت الآيات الشريفة على كفر من يحكم بخلاف ما أنزل الله تعالى. وبهذا يتجلى لنا أن على كل مسلم من مشارق الأرض أو غربها وجوب الجهاد عليه في هذه الكارثة العظمى والطامة الكبرى التي أصابت المسلمين في فلسطين لتوافر عوامل وجوب الجهاد الثلاثة فيها. نعم فرق فقهاؤنا في أحكام هذه الأنواع من جهات عديدة:

أحدها: إنهم اشترطوا في النوع الأول من الجهاد حضور النبي (ص) أو من يقوم مقامه وأخذ الإذن منه بذلك.

وأما النوع الثاني والثالث فأوجبوا الجهاد فيهما على كل من له القابلية على تدبير الحرب وجمع الجيوش وأوجبوا على المسلمين طاعته.

ثانيها: أنه في النوع الأول يشترط في المكلف بالجهاد أن لا يكون مريضا مرضا كالعمى والعرج ولا عبدا لأنه لا يملك نفسه.

وقد روي أن النبي (ص) كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد، ولا فقيرا عاجزا عن النفقة مع عدم الباذل لقوله تعالى: [وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ‌].

ولا خنثى ولا عليه واجب يعارض عملية الجهاد كالدين المطالب به فعلا، وكالنفقة الواجبة، وكالحج الواجب وإطاعة الوالدين، ولا يشترط في النوعين الأخرين ذلك، فإن الجهاد واجب فيهما على كل قادر على النصرة من قريب أو بعيد وجوباً كفائياً لا يسقط إلا إذا قام من به الكفاية على دفع الأعداء.

ثالثها: أنه لا يجوز التخلف عن الهدنة والأمان والصلح والعهد، ولا الاحتيال بالكذب والتزوير في النوع الأول ويجوز في النوعين الأخيرين إذا قوي الكفار وخيف الضرر.

رابعها: أنه يشترط في النوع الأول عدم زيادة الكفار على الضعف أو على عشرة أمثالهم وليس في النوعين الأخيرين تحديد إلا بالقدرة وعدمها.

خامسها: أنه لا يجوز في الأول في الأشهر الحرم بخلاف النوعين الأخيرين حيث تكون الحرب مع من لا يرى حرمتها.

سادسها: يختص الوجوب في النوع الأول، بمرة واحدة في السنة بخلاف النوعين الأخيرين.

سابعها: لزوم الدعاء للإسلام قبل محاربتهم في النوع الأول فإن أبوا وامتنعوا حوربوا، ولا يلزم ذلك في باقي الأنواع.

ثامنها: ليس لولي الأمر أن يأخذ أموال المسلمين قهراً للتوصل بها إلى الغرض المطلوب في النوع الأول وله في النوعين الأخيرين أن يتناول من الأموال إذا لم يكن عنده ما يقوم بكفاية ما يحتاجه الجيش من المؤونة في صد العدو، بل يجوز صرف الصدقات كزكاة المال وزكاة الفطرة وما به رد المظالم. وفي 0 ضوء ما ذكرنا جميعاً يتجلى لكم أن الجهاد بالنفس والنفيس محتم على كل مسلم في شرق الأرض وغربها من دون فرق بين العربي وغيره في قضية فلسطين لتوافر النوعين الأخيرين فيها موضوعاً وشرطا. وأني لأمل من مؤتمر البحوث الذي أخذ على عاتقه أن يعالج القضايا الإسلامية أن يتخذ خطوة إيجابية تعد أولى في هذا الموقف في ضوء ما ذكرناه من فتوى العلماء الأعلام فيوجب على كل مسلم ذكرا كان أو أنثى دفع مقدار من المال لا يقل عن (جنيه) مرة في كل سنة والطلب على سبيل التحتيم من رؤساء المسلمين وملوكهم إلزام رعيتهم بذلك، ويدعم هذا المطلب بالحكم على كل مسلم رئيسا كان أو مرؤوسا لا ينفذ هذا الطلب مقاطعة المسلمين له بأقصى أنواع المقاطعة، فلا يسلم عليه ولا يتعامل معه ولا يزوج ولا يشيع إلى غير ذلك، وأني لمستعد أن أنفذ هذا القرار فأدفع عني وعن أهل بيتي، وأني لأعتقد أن هذا الطريق هو أقرب الطرق وأنجحها في جمع المال للجهاد لتمكن كل مسلم منه. ثم بعد هذا يعين المؤتمر من يرى فيه الأهلية والقابلية والكفاءة لقيادة الجيش الذي تقر به عيوننا، وتنتعش به ضمائرنا. وفي عقيدتي سيلبي الطلب سائر المسلمين الذين تتركز فيهم العقيدة الدينية في أقطار العالم كافة فإنهم على أتم استعداد لتلبية دعوة الجهاد.

ثم أن هناك أنواعا أخر من القتال السائغ أو الواجب بحسب الشرع يطلق عليها اسم الدفاع ولا تندرج على سبيل الحقيقة تحت اسم الجهاد وهي أقسام:

أحدها: البغاة بالمعنى الأعم، وهم فئة من المسلمين خرجت عن طاعة ولي أمر المسلمين العادل سواء كانوا قطاع طرق للمسلمين أو مكفرين للمسلمين لشبهة لديهم ومستحلين منهم ما يستحل المسلمون من الكفار المحاربين، أو خارجين للاستقلال بالحكم دون التكفير، أو كانوا معتدين على قوم من المسلمين ولم يقبلوا بالصلح معهم، فإنه يجب قتال المعتدين وقد يخص اسم الخوارج بالقسم الثاني، والبغاة بالقسم الثالث والرابع. وأما قطاع الطرق فحكمهم معلوم وكيف كان فالأصل في ذلك هو قوله تعالى: [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‌ءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‌].

ثانيها: المهاجم الذي يريد التعدي على النفس أو العرض أو المال، فإنه يجوز للمعتدى عليه القتال معه لدفعه عن نفسه أو ماله أو عرضه ولا يلزم الاستئذان من ولي الأمر.

اسم الکتاب : الكلم الطيب المؤلف : كاشف الغطاء، علي    الجزء : 1  صفحة : 18
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست