فِي الصُّدُورِ وَ سَحْبٍ عَلَى الظُّهُورِ
إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ قَالَ مُطْبَقَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ[1] قَالَ إِذَا مُدَّتِ الْعُمُدُ أَكَلَتْ وَ اللَّهِ الْجُلُودَ [كَانَ وَ اللَّهِ الْخُلُودُ].
(105) سُورَةُ الْفِيلِ مَكِّيَّةٌ آيَاتُهَا خَمْسٌ (5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ- أَ لَمْ تَرَ أَ لَمْ تَعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ قَالَ نَزَلَتْ فِي الْحَبَشَةِ حِينَ جَاءُوا بِالْفِيلِ[2] لِيَهْدِمُوا بِهِ الْكَعْبَةَ، فَلَمَّا أَدْنَوْهُ
[1]. قُرِئَ بِضَمَّتَيْنِ وَ هِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ غَيْرَ حَفْصٍ، وَ قَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحَتَيْنِ وَ كِلَاهُمَا جَمْعُ عَمُودٍ فِي الْكَثْرَةِ، أَمَّا جَمْعُهُ فِي الْقِلَّةِ فَأَعْمِدَةٌ وَ الْمَعْنَى أَنَّهُ تُؤْصَدُ عَلَيْهِمُ الْأَبْوَابُ و يُمَدَّدُ عَلَى الْأَبْوَابِ الْعُمُدُ اسْتِيثَاقاً فِي اسْتِيثَاقٍ وَ فِيهِ تَأْكِيدٌ لِلْيَأْسِ مِنَ الْخُرُوجِ وَ إِيْذَانٌ بِحَبْسِ الْأَبَدِ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ
[2]. الَّذِي جَاءَ بِالْفِيلِ لِيَهْدِمَ الْكَعْبَةَ هُوَ أَبْرَهَةُ مَلِكُ الْيَمَنِ مِنْ قَبْلِ النَّجَاشِي قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ السَّبَبُ الَّذِي جَرَّ أَصْحَابَ الْفِيلِ إِلَى مَكَّةَ أَنَّ فِئَةً مِنْ قُرَيْشٍ خَرَجُوا تُجَّاراً إِلَى أَرْضِ النَّجَاشِي فَسَارُوا حَتَّى دَنَوْا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ وَ فِي حِقْفٍ مِنْ أَحْقَافِهَا بِيعَةٌ لِلنَّصَارَى تُسَمِّيهَا قُرَيْشٌ الْهَيْكَلَ وَ يُسَمِّيهَا النَّجَاشِي وَ أَهْلُ أَرْضِهِ« مَاسَرَخْشَانُ» فَنَزَلَ الْقَوْمُ فَجَمَعُوا حَطَباً ثُمَّ أَجَّجُوا نَاراً وَ اشْتَرَوْا لَحْماً فَلَمَّا ارْتَحَلُوا تَرَكُوا النَّارَ كَمَا هِيَ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ فَذَهَبَتِ الرِّيَاحُ بِالنَّارِ فَاضْطَرَمَ الْهَيْكَلُ نَاراً فَغَضِبَ النَّجَاشِي لِذَلِكَ فَبَعَثَ أَبْرَهَةَ لِهَدْمِ الْكَعْبَةِ، وَ كَانَ مَعَهُمْ فِيلٌ وَاحِدٌ اسْمُهُ مَحْمُودٌ وَ قِيلَ ثَمَانِيَةٌ وَ قِيلَ اثْنَا عَشَرَ فِيلًا وَ كَانَ فِي الْعَامِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ص وَ كَانَتِ الْحِجَارَةُ أَكْبَرَ مِنَ الْعَدَسَةِ وَ أَصْغَرَ مِنَ الْحِمَّصَةِ، وَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ صَاحَتِ الطَّيْرُ فَرَمَتْهُمْ بِالْحِجَارَةِ فَبَعَثَ اللَّهُ رِيحاً فَضَرَبَتِ الْحِجَارَةَ فَزَادَتْهَا شِدَّةً فَمَا وَقَعَ مِنْهَا حَجَرٌ عَلَى رَجُلٍ إِلَّا خَرَجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَإِنْ وَقَعَ عَلَى رَأْسِهِ خَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ، وَ كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَاتِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَظْهَرَهُ اللَّهُ لِيَدُلَّ عَلَى وُجُوبِ مَعْرِفَتِهِ وَ فِيهِ حُجَّةٌ قَاصِمَةٌ لِظُهُورِ الْفَلَاسِفَةِ الْمُلْحِدِينَ الْمُنْكِرِينَ لِلْآيَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ نِسْبَةُ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَمْرِ أَصْحَابِ الْفِيلِ إِلَى طَبِيعَةٍ كَمَا نَسَبُوا الصَّيْحَةَ وَ الرِّيحَ الْعَقِيمَ وَ غَيْرَهُمَا مِمَّا أَهْلَكَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْأُمَمَ، إِذْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَرَوْا فِي أَسْرَارِ الطَّبِيعَةِ إِرْسَالَ جَمَاعَاتٍ مِنَ الطَّيْرِ مَعَهَا أَحْجَارٌ لِهَلَاكِ أَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ قَاصِدَاتٍ إِيَّاهُمْ مِنْ دُونِ سِوَاهُمْ، وَ لَا يَشُكُّ مَنْ لَهُ مُسْكَةٌ مِنْ عَقْلٍ وَ لُبٍّ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ فِعْلِ اللَّهِ مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ وَ مُذَلِّلِ الصِّعَابِ.
وَ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ هَذَا لِأَنَّ نَبِيَّنَا ص لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ لَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ بَل أَقَرُّوا بِهِ وَ صَدَّقُوهُ مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى تَكْذِيْبِهِ وَ كَانُوا قَرِيبِي الْعَهْدِ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ عِنْدَهُمْ حَقِيقَةٌ وَ أَصْلٌ لَأَنْكَرُوهُ وَ جَحَدُوهُ كَيْفَ وَ أَنَّهُمْ قَدْ أَرَّخُوا بِذَلِكَ كَمَا أَرَّخُوا بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ وَ قَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ ذِكْرَ الْفِيلِ.( مجمع البيان) ج. ز.