ثم أخبر عن حال ذريتهما فقال «فَمِنهُم مُهتَدٍ» إلي طريق الحق و اتباعه «وَ كَثِيرٌ مِنهُم فاسِقُونَ» أي خارجون عن طاعة اللّه إلي ذل معصيته. ثم اخبر تعالي إنه قفي علي آثار من ذكرهم برسل أخر الي قوم آخرين. و التقفية جعل الشيء في أثر الشيء علي الاستمرار فيه: و لهذا قيل لمقاطع الشعر قوافي إذا كانت تتبع البيت علي أثره مستمرة في غيره علي منهاجه، فكأنه قال: و أنفذنا بعدهم بالرسل رسولا بعد رسولهم «وَ قَفَّينا بِعِيسَي ابنِ مَريَمَ» بعدهم «وَ آتَيناهُ» أي أعطينا عيسي إبن مريم «الإِنجِيلَ وَ جَعَلنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأفَةً وَ رَحمَةً» و قيل في معناه قولان:
أحدهما- إنه جعل في قلوبهم الرأفة و الرحمة بالأمر به و الترغيب فيه. ثم أخبر انه رزق الرأفة و الرحمة. قال ابو زيد: يقال رؤفت بالرجل و رأفت به رأفة- بفتح الهمزة، و سكونها-.
الثاني- إنه خلق في قلوبهم الرأفة و الرحمة. و إنما مدحهم علي ذلک، لأنهم تعرضوا لهما.
و قوله «وَ رَهبانِيَّةً ابتَدَعُوها» يعني ابتدعوا الرهبانية ابتدعوها و هي الخصلة من العبادة يظهر فيها معني الرهبة إما في لبسه أو انفراده عن الجماعة أو غير ذلک من الأمور الّتي يظهر فيها نسك صاحبها. و معني الآية ابتدعوا رهبانية لم تكتب عليهم.
ثم قال «ما كَتَبناها عَلَيهِم» الرهبانية «إِلَّا ابتِغاءَ رِضوانِ اللّهِ» فالثانية غير الأولي إلا انه لما اتفق الاسمان فيهما كني عنهما بما تقدم، و قام إعادة لفظهما مقامهما کما قال حسان:
أمن يهجو رسول اللّه منكم و يمدحه و ينصره سواء[1]
فالتقدير و من يمدحه. و الابتداع ابتداء أمر لم يجد فيه علي مثال، و البدعة