الثاني : أن القرآن نزل في زمان لم يكن
فيه للقواعد العربية عين ولا أثر ، وإنما اخذت هذه القواعد ـ بعد ذلك ـ من استقراء
كلمات العرب البلغاء ، وتتبع تراكيبها. والقرآن لو لم يكن وحيا إلهيا ـ كما يزعم
الخصم ـ فلا ريب في أنه كلام عربي بليغ ، فيكون أحد المصادر للقواعد العربية ، ولا
يكون القرآن أقل مرتبة من كلام البلغاء الاخرين المعاصرين لنبي الاسلام. ومعنى هذا
: أن القاعدة العربية المستحدثة إذا خالفت القرآن كان هذا نقضا على تلك القاعدة ، لا
نقدا على ما استعمله القرآن. على أن هذا لوتم فإنما يتم فيما إذا اتفقت عليه
القراءات ، فإنا سنثبت ـ فيما يأتي ـ أن هذه القراءات المعروفة إنما هي اجتهادات
من القراء أنفسهم ، وليست متواترة عن النبي (ص) فلو ورد اعتراض على إحدى القراءات
كان ذلك دليلا على بطلان تلك القراءة نفسها ، دون أن يمس بعظمة القرآن وكرامته.
وقالوا :
٢ ـ إن الكلام البليغ ـ وإن عجز البشر
عن الاتيان بمثله ـ لا يكون معجزا ، فإن معرفة بلاغته تختص ببعض البشر دون بعض ، والمعجز لا بد وأن يعرف
إعجازه جميع أفراد البشر ، لان كل فرد منهم مكلف بتصديق نبوة صاحب ذلك المعجز.
الجواب :
وهذه
شبهة تشبه ما تقدمها في ضعف الحجة ، وتفكك
القياس. فإن المعجز لا يشترط فيه أن يدرك إعجازه كل البشر ، ولو اشترطنا ذلك لم
يسلم لنا معجز أصلا ، فإن إدراكه يختص بجماعة خاصة ، ويثبت لغيرهم بالنقل
المتواتر. وقد ذكرنا امتياز القرآن عن غيره من المعجزات ، بأن التواتر قد ينقطع في
مرور الزمان. وأما القرآن فهو معجزة باقية أبدية ببقاء الامة العربية ، بل ببقاء
من يعرف خصائص اللغة العربية ، وإن لم يكن عربيا. وقالوا :
٣ ـ إن العارف باللغة العربية قادر على
أن يأتي بمثل كلمة من كلمات القرآن.