responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الأمثل المؤلف : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    الجزء : 1  صفحة : 25

بحوث


1 ـ الصفا والمروة
الصفا والمروة اسمان لجبلين صغيرين في مكة، يقعان اليوم بعد توسيع المسجد الحرام، في الضلع الشرقي للمسجد، في الجهة التي يقع فيها الحجر الأسود ومقام إبراهيم.
يفصل بين الجبلين 420 متراً تقريباً، والمسعى اليوم بدل بصالة كبيرة مسقّفة ذات طابقين يسعى الحجاج فيهما، وارتفاع الصفا خمسة عشر متراً، والمروة ثمانية أمتار.
واللفظان اليوم علمان لهذين الجبلين، وفي الأصل الصفا هي الصخرة الملساء القوية المختلطة بالحصى والرمل، والمروة الصخرة القوية المتعرّجة.
والشعائر جمع شعيرة أي العلامة، وشعائر الله أي العلامات التي تذكّر الإنسان بالله، وتعيد إلى الأذهان ذكريات مقدسة.
و«اعتمر» أي أدى العمرة، والعمرة في الأصل الملحقات الإضافية في البناء، وفي الشريعة تطلق على الأعمال الخاصة، التي يؤديها المسلم إلى جانب أعمال الحج، أو يؤديها لوحدها في العمرة المفردة. وبينها وبين أعمال الحج أوجه اشتراك وافتراق.
2 ـ من أسرار السعي بين الصفا والمروة

صحيح أن قراءة تاريخ حياة عظماء التاريخ يدفع الإنسان إلى الإقتداء بهم، لكن هناك طريقاً أكثر تأثيراً، وهو مشاهدة المعالم الأثرية التي كافح عليها هؤلاء الرجال، وسجلوا فيها بطولاتهم.
هذه المعالم هي في الواقع ليست مثل كتب التاريخ الميتة، بل هي تاريخ حيّ ناطق، يستطيع أن يُحلّق بالإنسان عبر القرون والأعصار، ليجعله يعيش مع الحوادث الماضية بكل مشاعره.
الأثر التربوي لهذه المشاهدات أعمق بكثير من تأثير الكتب والمحاضرات وأمثالها ... فهنا الشعور لا الإدراك، والتصديق لا التصور، والعينية لا الذهنية.
من جهة اُخرى، قلّ أن يوجد بين الأنبياء نبيّ كإبراهيم(عليه السلام)، خاض ألوان النضال وتعرض لأنواع الإِمتحان، حتى قال القرآن عمّا اختبر به: (إِنَّ هَذا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبينُ)(465).
وهذه المعاناة الطويلة التي عاشها إبراهيم هي التي أهّلته لأن ينال مقام «الإمامة».
مناسك الحج تجسّد في الأذهان دورة كاملة من مشاهد كفاح إبراهيم ومراحل تكامله التوحيدي وعبوديته وتضحياته وإخلاصه.
لو فهم المسلمون ـ لدى أدائهم مناسك الحج ـ روح الحج وأسراره، وتعمّقوا في جوانبه «الرّمزية» لكان الحج دورة تربوية في حقل معرفة الله والنّبوة والشخصية الإِنسانية.
بعد هذه المقدمة نعود إلى الخلفيّة التاريخية للصّفا والمروة.
إبراهيم(عليه السلام) بلغه الكبر ولم يُرزق ولداً، فدعى ربّه أن لا يتركه فرداً، فاستجاب له، ورزقه من جاريته هاجر ولداً سمّاه «إسماعيل».
لم تستطع «سارة» زوجته الاُولى أن تطيق الحالة الجديدة، وقد رزق إبراهيم ولداً من غيرها، فأمر الله إبراهيم أن يهاجر بالطفل والأم إلى مكة حيث الأرض القاحلة المجدبة آنذاك، ويسكنهما هناك.
امتثل إبراهيم أمر ربه، وذهب بهما إلى صحراء مكة وأسكنهما في تلك الأرض، وهمّ بالرجوع، فضجّت زوجته بالبكاء، إذ كيف تستطيع أن تعيش امرأة وحيدة مع طفل رضيع في مثل هذه الأرض؟!
بكاء هاجر ومعه بكاء الطفل الرضيع هزّ إبراهيم من الأعماق، لكنه لم يزد يعلى أن ناجى ربّه قائ: (رَبَّنَا إِنّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيَّتِي بِوَاد غَيْرِ ذِي زَرْع عِنْدَ بَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقهُمْ مِنَ الَّثمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(466)، ثم ودّع زوجه وطفله بحزن وألم عميقين.
لم يمض وقت طويل حتى نفذ طعام الأمّ وماؤها، وجفّ لبنها. بكاء الطفل أضرم في نفس الأم ناراً، ودفعها لأن تبحث بقلق واضطراب عن الماء. اتجهت يأو إلى جبل «الصفا» فلم تجد للماء أثراً، لَفت نظرها بريق ماء عند جبل «المروة» فأسرعت إليه فوجدته سراباً، ثم رأت عند المروة بريقاً لدى الصفا أسرعت إليه فما وجدت شيئاً، وهكذا جالت سبع مرات بين الصفا والمروة بحثاً عن الماء. وفي النهاية، وبعد أن أشرف الطفل على الموت، انفجرت عند رجله فجأة عين زمزم، فشرب الطفل وأمه ونجيا من الموت المحقق.
الماء، رمز الحياة، وانفجار العين جرّ الطيور من الآفاق نحو هذه الأرض، والقوافل شاهدت حركة الطيور، فاتجهت هي أيضاً نحو الماء وببركة هذه العائلة تحولت أرض مكة إلى مركز حضاري عظيم.
ويقع جوار الكعبة حجر إسماعيل حيث مدفن تلك المرأة وابنها، وعلى الحاج أن يضمه إلى البيت في طوافه، أي يجب على الحجاج أن يطوفوا خارج هذه الحجر وكأنه جزء من الكعبة.
في الصفا والمروة درس في التضحية بكل غال ونفيس، حتى بالطفل الرضيع، من أجل المبدأ والعقيدة.
السعي بينهما يعلمنا أن نعيش دائماً أمل النجاح والإنتصار، حتى في أشدّ لحظات الشدّة، فهاجر بذلت سعيها وجاءها رزق الله من حيث لا تحتسب.
السعي بين الصفا والمروة يقول لنا: إن هاتين الشعيرتين كانتا يوماً وكراً لصنمين من أصنام العرب، وأصبحتا اليوم معلمين من معالم التوحيد بفضل جهاد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، من حق جبل الصفا أن يفخر ويقول: أنا أول منطلق لدعوة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فحينما كانت مكة تغطّ في ظلمات الشرك وبزغ من عندي فجر الهداية. واعلموا أيّها الساعون بين الصفا والمروة أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) صعد يوماً على هذا الجبل ليدعو النّاس إلى الله، فلم يجبه أحد، واليوم فإن الآلاف المؤلفة تجيب الدعوة وتحج بيت الله على النهج المحمّدي الإبراهيمي. وإنه لدرس لكم يعلمكم أن تسيروا على طريق الحقّ دونما يأس، وإن قلّ الناصر والمجيب.
السعي بين الصفا والمروة يقول لنا: اعرفوا قدر نعمة هذا الدين وهذا المركز التوحيدي، فثمة أفراد حفظوا الشريعة وشعائرها لنا بدمائهم على مرّ التاريخ.
من أجل إحياء كل تلك الأحاسيس والمشاعر في النفوس، أمر الله الحجيج أن يسعوا سبع مرات بين الصفا والمروة.
أضف إلى ما تقدم أن السعي يقضي على كبر الإنسان وغروره، فلا أثر للتبختر والتصنع في السعي، بل لابدّ من قطع هذه المسافة ذهاباً ومجيئاً مع كافة النّاس، وبنفس لباس النّاس، وبهرولة أحياناً!! ولذلك ورد في الروايات أن السعي إيقاظ للمتكبرين.
على أية حال، بعد أن ذكرت الآية أن الصفا والمروة من شعائر الله، أكدت عدم وجود جناح على من يطوّف بهما في الحج والعمرة، والطواف بين الصفا والمروة هو السعي بينهما، لأن الحركة التي يعود فيها الإنسان إلى حيث إبتدأ هي طواف وإن لم تكن الحركة دائرية.

* * *


3 ـ جواب على سؤال
لفظ (لاجناح) يشير إلى عدم حرمة السعي بين الصفا والمروة وجواز ذلك، وقد يسأل سائل عن سبب وجوب السعي في الفقه الإسلامي، بينما الآية تبيحه فقط؟
الجواب على هذا السؤال نفهمه بوضوح من سبب نزول الآية. فالمسلمون كرهوا السعي بين الصفا والمروة، بعد أن شاهدوا بأم أعينهم مدى عبث المشركين بهذا المكان، ومدى تلويثهم إياه بالأصنام. فخالوا أن من غير اللائق بالمسلم أن يسعى في هذا المكان.
جاءت الآية لتقول لهم: إن الصفا والمروة من شعائر الله، وعبارة (لا جناح)(467)لإزالة ما تصوروه من كراهة لهذا العمل.
وثمّة تعبيرات مشابهة ذكرها القرآن لأحكام اُخرى كصلاة المسافر في قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ)(468).
ونعلم أن القصر واجب في صلاة المسافر، لا جائز. بشكل عام قد تستعمل كلمة (لا جناح) لإزالة التوهم بحرمة الشيء أو بكراهته، وهذا المعنى يؤكده حديث عن الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام) في كتاب «من لا يحضره الفقيه».
4 ـ معنى التطوع

التطوع في اللغة: قبول الطاعة والإنصياع للأوامر، وفي الفقه يطلق على الأعمال المستحبة، من هنا ذهب أَغلب المفسرين إلى تفسير «وَمن تطوع ...» بالحج المستحب والعمرة المستحبة، أو الطواف، أو أي عمل مستحب آخر. يفالعبارة تعني إذن أن الله شاكر لمن يعمل الخيرات امتثا لأوامره سبحانه، والله عليم بكل هذه الأعمال.
ومن المحتمل أيضاً أن تكون العبارة تأكيداً لما سبقها، ويكون المقصود بالتطوع حينئذ قبول الطاعة في أداء الأعمال الشاقة.
معنى العبارة، على هذا، على الحجاج السعي بين الصفا والمروة بكل ما فيه من مشاق ورغم كراهتكم لذلك ... هذه الكراهة الناتجةعن سوء تصرف الجاهليين بهذا المكان المقدس.
5 ـ شكر الله

ينبغي الإِلتفات هنا إلى عبارة الشاكر في الآية، وهو تعبير في غاية الروعة، وإنه لتكريم ما بعده تكريم للإنسان، أن يشكره الله على أعماله الخيّرة.
وحين يكون الله شاكراً لعبده على برّه، فمن الأَولى أن يكون العبد شاكراً لربّه على نعمه التي لا تحصى، وشاكراً لمن أحسن إليه من العباد.

* * *


الآيتان



إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَـتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَابَيَّنَّـهُ لِلنَّاسِ فِى الْكِتَـبِ أُوْلَـئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّـعِنُونَ__ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ__

سبب النّزول


روى جلال الدين السيوطي عن ابن عباس، أن عدداً من المسلمين أمثال «معاذ بن جبل» و«سعد بن معاذ» و«خارجة بن زيد» سألوا أحبار اليهود عن مسائل في التوراة قد ترتبط بظهور النّبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم)، فأبى الأحبار أن يجيبوا وكتموا ما عندهم من علم(469).

التّفسير


حرمة كتمان الحق
الآية ـ وإن خاطبت كما في أسباب النّزول، علماء اليهود ـ غير محدودة بمخاطبيها، بل تبين حكماً عاماً بشأن كاتمي الحق.
الآية الكريمة تتحدث عن هؤلاء بشدّة وتقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبِيِّنَاتِ وَالْهُدَىْ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ، أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ).
فالله سبحانه وعباده الصالحون وملائكته المقربون يلعنون من يكتم الحق، وبعبارة اُخرى، كل أنصار الحق يغضبون على من كتم الحق. وأية خيانة للعالم أكبر من محاولة العلماء كتمان آيات الله المودعة عندهم من أجل مصالحهم الشخصية ولتضليل النّاس.
وعبارة (مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ) إشارة إلى أن هؤلاء الأفراد يصادرون في الواقع جهود الأنبياء وتضحيات أولياء الله الصالحين، وهو ذنب عظيم.
والفعل (يلعن) تكرر في الآية للتأكيد، واستعمل بصيغة المضارع لبيان استمرار اللعن، ومن هنا فإنّ لعنة الله ولعنة اللاعنين تلاحق هؤلاء الكاتمين لآيات الله باستمرار، وذلك أقسى صور العقاب.
«البينات» و«الهدى» لهما معنى واسع يشمل كل وسائل الهداية والتوعية والإيقاظ وإنقاذ النّاس.
ولما كان القرآن كتاب هداية، فإنه لايغلق منافذ الأمل والتوبة أمام الأفراد، ولا يقطع أملهم في العودة مهما ارتكسوا في الذبوب، لذلك تبين الآية التالية طريق النجاة من هذا الذنب الكبير وتقول: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَابُ الرَّحِيمُ).
عبارة (أنَا التَّوَابُ الرَّحِيمُ) جاءت بعد عبارة (فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ)للدلالة على كثرة محبة الله، وسبق عطفه على عباده التائبين. فيقول سبحانه لهؤلاء: إن تبتم، أي عدتم إلى نشر الحقائق، فأنا أعود أيضاً إلى إغداق الرحمة والمواهب عليكم.
ومن الملفت للنظر، أن الله لم يقل أنه يقبل التوبة ممن تاب، بل يقول: من تاب فأنا أيضاً أتوب عليه، والفرق في التعبيرين واضح، فالثاني فيه من التودّد والتحنن وإغداق اللطف ما لا يمكن وصفه.
ثم استعمال الضمير (أنا) في هذا الموضع يستهدف نوعاً من التودّد وبيان الارتباط المباشر بين المتكلم والسّامع وخاصة اذا قال عظيم من العظماء: «أنا أتكفل لك بالعمل الفلاني» حيث يختلف عما لو قال: «سنقوم نحن بانجاز العمل» فالمحبّة الكامنة في الاسلوب الاول غير خافية على أحد.
وكلمة «توّاب» صيغة مبالغة تبعث الأمل في نفوس المذنبين وتمزق أستار اليأس، عن سماء أرواحهم خاصة وأنها اقترنت بكلمة (رحيم) التي تشير إلى الرحمة الالهية الخاصة.

* * *


بحوث


1 ـ مفاسد كتمان الحق
كتمان الحقائق من المسائل التي عانت منها المجتمعات البشرية على مرّ التاريخ، وكان لها دوماً آثار سيئة عميقة استمرت قروناً واعصاراً. ويتحمل تبعة هذه المساويء دون شك أولئك العلماء الذين يعلمون تلك الحقائق ويكتمونها.
لعل القرآن لم يهدد ويذمّ فئة كما هدّد وذم هذه الفئة الكاتمة للحقائق. ولم لا؟ يفإن عمل هؤلاء يجرّ أجيا متعاقبة إلى طريق الضلال والفساد، كما أن نشر الحقائق يدفع بالأمم إلى طريق الهداية والصلاح.
البشرية تميل للحقائق بفطرتها، وكتمان الحقائق عنها يعني صدّ البشرية عن طريق تكاملها الفطري المرسوم لها.
لو أن علماء اليهود والنصارى أعلنوا ما عندهم من حقائق بشأن النّبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم)، ونشروا ما جاء في العهدين من بشائر حول رسول الإسلام، لانضوى أهل الكتاب تحت راية الإسلام، ولأصبحوا مع المسلمين أمة واحدة.
كتمان الحقائق لا ينحصر دون شك في كتمان علامات النّبوة والبشائر بالنّبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل يشمل كتمان كل حقيقة تستطيع أن تدفع النّاس إلى الفهم الصحيح بالمعنى الواسع لهذه الكلمة.
السكوت في مواضع يجب فيها البيان قد يكون من مصاديق كتمان الحق، وذلك يكون في موارد يحتاج النّاس فيها بشدّة إلى فهم الحقائق ويستطيع العلماء فيها أن يلبّوا هذه الحاجة.
بعبارة اُخرى: نشر الحقائق التي يعاني منها النّاس لا يتوقف على السّؤال، وما يذهب إليه صاحب المنار من أن كتمان الحقائق يكون في مواضع السؤال ليس بصحيح. خاصة وأن القرآن لا يتحدث عن كتمان الحقائق فحسب، بل يتحدث في مواضع اُخرى عن تبيين الحقائق أيضاً، وهذا يرد على أولئك الذين يلتزمون جانب الصمت أمام الإنحرافات بحجّة عدم وجود سائل يطرح عليهم يسؤا بشأن تلك الإنحرافات. يقول سبحانه:
(وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ)(470).
جدير بالذكر أن إلهاءَ النّاس بالمسائل الفرعية، لصرف أنظارهم عن المسائل الأسياسية الحياتية نوع من كتمان الحقائق. إذا لم يشمله فرضاً تعبير «كتمان الحقائق» فهو مشمول حتماً بملاك وفلسفة كتمان الحق.
2 ـ كتمان الحق في الأحاديث

حملت الأحاديث بشدّة أيضاً على كاتمي الحق، فروي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قال: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْم يَعْلَمُهُ فَكَتَمَ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَام مِنْ نَار»(471).
ونعيد هنا القول أن ابتلاء الناس بمسألة والحاجة الى بيانها يحل محل السّؤال. وبيان الحقائق في هذه الحالة واجب.
وسُئل الامام أمير المؤمنين(عليه السلام): «مَنْ شَرُّ خَلقِ اللّهِ بَعدَ إبلِيسَ وَفِرعَونَ؟ قَالَ: العُلَمَاءُ إذا فَسَدوا، هُم المُظهِرُونَ لِلأبَاطِيلِ، الكَاتِمُونَ للحَقَائِقِ، وَفِيهِم قَالَ اللّهُ عَزّوجَلَّ: (اُولئك يَلعَنهُم اللّهُ ويَلعَنُهُم اللاعِنُونَ)(472)  3 ـ معنى اللعن

اللعن في الأصل: الطرد والإبعاد الممزوج بالغضب والإستياء. فاللعن الإلهي إذن إبعاد الإنسان عن رحمة الله، وعن جميع المواهب المغدقة على عباده.
وما قيل بشأن تقسيم اللعن إلى: لعن في الآخرة، وهو العذاب والعقوبة، ولعن في الدنيا وهو سلب التوفيق، إنما هو من قبيل بيان المصداق، لا حصر اللعن بهذين القسمين.
وكلمة (اللاعنون) لها معنى واسع لا يقتصر على الملائكة والمؤمنين، بل يشمل كل الموجودات التي تتحدث بلسان القال أو الحال. وفي بعض الروايات نرى أن كل الموجودات تدعو لطلب العلم كقول المعصوم: «وَإِنَّهُ يَسْتَغْفِرُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ»(473)
وإن استغفرت هذه الموجودات لطالب العالم، فمن الطبيعي أن تلعن كاتمه.
4 ـ كلمة (توّاب) صيغة مبالغة من تاب: عاد، وتبين حقيقة انفتاح باب التوبة أمام الإنسان، حتى ولو انخدع الإنسان بوساوس الشيطان بعد توبته، فيستطيع أن يتوب ثانية ويعود إلى الله ويكشف ما عنده من الحق، فالله توّاب، ولا يجوز اليأس من رحمته وعفوه.

* * *


الآيات


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَـئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ__ خَـلِدِينَ فِيهَا لاَيُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَهُمْ يُنظَرُونَ__ وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَـنُ الرَّحِيمُ__

التّفسير


أَلَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ
تحدثت الآيات السابقة عن نتيجة كتمان الحقائق، وهذه الآيات تكمل الموضوع السابق، وتتناول جزاء الذين يواصلون طريق الكفر والكتمان والعناد إلى آخر عمرهم.
تقول الآية: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ).
هؤلاء أيضاً مثل كاتمي الحق، مستحقون للعنة الله والملائكة وجميع النّاس، مع اختلاف هو أن هؤلاء المصرّين على الكفر حتى نهاية حياتهم لا رجعة لهم طبعاً ولا توبة.
ثم تقول الآية التالية إن هؤلاء الكفار المصرّين على كفرهم حتى اللحظات الأخيرة من حياتهم: (خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ).
ولما كان التوحيد ينهي كل هذه المصائب، فالآية الثالثة تطرح هذا الأصل وتقول: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ).
ثم تؤكد هذا الأصل وتقول: (لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ).
بعد ذلك تصف الآية الله بأنه (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) لتقول إن الله الذي تشمل رحمته العامة كل الموجودات، ورحمته الخاصة المؤمنين، هو اللائق بالعبودية لا الموجودات المحتاجة.

* * *


بحوث


1 ـ يوضح القرآن في مواضع متعدّدة، أن الذين ماتوا على كفرهم لا نجاة لهم، وهذا أمر طبيعي، لأن سعادة الحياة الآخرة وشقاءها نتيجة مباشرة لما ادّخره الإنسان من أعمال في هذه الحياة. ومن أحرق جناحيه في الحياة الدنيا بنار الكفر والإنحراف لا يستطيع طبعاً أن يحلّق في الآخرة، ولابدّ من سقوطه في درك الجحيم. وواضح أيضاً أن هذا الفرد سيبقى على وضعه هذا في عالم الآخرة، لأن ذلك العالم ليس عالم الحصول على وسيلة.
هذا يشبه إنساناً فقد عينيه بسبب جنوحه واتباعهالشهوات والاهواء عالماً عامداً، فلابدّ له أن يعيش أعمى طول حياته.
وبديهي أن هذا مصير الكافرين الذين سلكوا طريق الكفر عن علم وعمد. (وسنوضح مسألة الخلود أكثر في تفسير الآيتين 107 و 108 من سورة هود، في المجلد السابع من هذا التّفسير).
2 ـ الآية الثالثة في بحثنا هذا تبين أحدية الله بشكل ينفي كل شرك وإنحراف.
قد نرى أحياناً موجودات منفردة في صفة من صفاتها، لكن هذه الموجودات تتفرد في صفة أو عدّة صفات. أمّا الله فهو أحد في ذاته، وأحد في صفاته، وأحد يفي أفعاله، أحديته لا تقبل التعدد عق، إنه أحد أزلي وأبدي لا تؤثر الحوادث على أحديته. إنه أحد في الذهن وخارج الذهن. إنه أحد في أحديته!
3 ـ ألا يكفي لعن الله؟!

الآية أعلاه ذكرت أن الذين ماتوا وهم كفار، مشمولون بلعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين. وهنا قد يسأل سائل: أليست لعنة الله كافية؟
الجواب واضح، فلعنة الملائكة والنّاس زيدت على لعنة الله للتأكيد، ولبيان كراهة النّاس لمثل هؤلاء المذنبين.
ولو قيل لِمَ ذكرت الآية (النّاس) بشكل عام، بينما يوجد بين النّاس من هم شركاء في الجريمة، وهؤلاء لا يلعنون أولئك المجرمين؟
يوالجواب: إن هؤلاء أيضاً كارهون لأعمال أولئك، فهؤلاء يكرهون مث كتمان الحقائق عنهم، ويلعنون من يستر عنهم الحقيقة، لكنهم يفعلون هم أيضاً هذه السيئة إن اقتضت مصلحتهم ذلك.

* * *


الآية


إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلَـفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآء فَأَحْيَا بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّة وَتَصْرِيفِ الرِّيَـحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالاَْرْضِ لاََيَـت لِّقَوْم يَعْقِلُونَ__

التّفسير


مظاهر عظمة الله في الكون
آخر آية في المبحث الماضي دارت حول توحيد الله، وهذه الآية تقدم الدليل على وجود الله ووحدانيته.
قبل أن ندخل في تفسير الآية، لابدّ من مقدمة موجزة. حيثما كان «النظم والإنسجام»، فهو دليل على وجود العلم والمعرفة، وأينما كان «التنسيق» فهو دليل على الوحدة. من هنا، حينما نشاهد مظاهر النظم والإنسجام في الكون من جهة، والتنسيق ووحدة العمل فيه من جهة اُخرى، نفهم وجود مبدأ واحد للعلم والقدرة صدرت منه كل هذه المظاهر.
حينما نمعن النظر في الأغشية الستة للعين الباصرة ونرى جهازها البديع، نفهم أن الطبيعة العمياء الصماء لا يمكن إطلاقاً أن تكون مبدأ مثل هذا الأثر البديع، ثم حينما ندقق في التعاون والتنسيق بين هذه الأغشية، والتنسيق بين العين بكل أجزائها وبين جسم الإنسان، والتنسيق الفطري الموجود بين الإنسان وبين سائر البشر، والتنسيق بين بني البشر وبين كل مجموعة نظام الكون، نعلم أن كل ذلك صادر من مبدأ واحد، وكل ذلك من آثار وقدرة ذات مقدسة واحدة.
ألا تدل القصيدة الجميلة العميقة المعنى على ذوق الشاعر وقريحته؟!
ألا يدلّ التنسيق الموجود بين قصائد الديوان الواحد على أنها جميعاً صادرة من قريحة شاعر مقتدر واحد؟
بعد هذه المقدمة نعود إلى تفسير الآية، هذه الآية الكريمة تشير إلى ستة أقسام من آثار النظم الموجود في عالم الكون، وكل واحد آية تدل على وحدانية المبدأ الأكبر. 1 ـ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ...)
من العلامات الدالة على ذات الله المقدسة وعلى قدرته وعلمه ووحدانيته، السماء وكرات العالم العلوي، أي هذه المليارات من الشموس المشرقة والنجوم الثابتة والسيارة، التي ترى بالعين المجردة أو بالتلسكوبات، ولا يمكن رؤية بعضها بأقوى أجهزة الإرصاد لبعدها الشاسع .... الشاسع للغاية، والتي تنتظم مع بعضها في نظام دقيق مترابط.
وهكذا الأرض بما على ظهرها من حياة، تتجلّى بمظاهر مختلفة وتتلبس بلباس آلاف الأنواع من النبات والحيوان.
ومن المدهش أن عظمة هذا العالم وسعته وامتداده تظهر أكثر كلما تقدّم العلم، ولا ندري المدى الذي سيبلغه العلم في فهم سعة هذا الكون!
يقول العلم لنا اليوم: إن في السماء آلافاً مؤلفة من المجرات، ومنظومتنا الشمسية جزء من واحدة من المجرات، وفي مجرتنا وحدها مئات الملايين من الشموس والنجوم السّاطعة، وحسب دراسات العلماء يوجد بين هذه الكواكب مليون كوكب مسكون بمليارات الموجودات الحيّة!
حقاً ما أعظم هذا الكون! وما أعظم قدرة خالقه!! 2 ـ (وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ...)
من الدّلائل الاُخرى على ذاته المقدسة وصفاته المباركة تعاقب الليل والنهار، والظلمة والنور بنظام خاص، فينقص أحدهما بالتدريج ليزيد في الآخر، وما يتبع ذلك من تعاقب الفصول الأربعة، وتكامل النباتات وسائر الأحياء في ظل هذا التكامل.
لو انعدم هذا التغيير التدريجي، أو انعدم النظام في هذا التدريج، أو انعدم تعاقب الليل والنهار لإِنمحت الحياة من وجه الكرة الأرضية، ولو بقيت واستمرت ـ فرضاً ـ لأصابتها الفوضى والخبط(474). 3 ـ (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْر بِمَا يَنْفَعُ النّاسَ)
الإنسان يمخر عباب البحار والمحيطات بالسفن الكبيرة والصغيرة، مستخدماً هذه السفن للسفر ولنقل المتاع. وحركة هذه السفن خاصة الشراعية منها تقوم على عدّة أنظمة:
الأوّل، نظام هبوب الرياح على سطح مياه الكرة الأرضية، فهناك الرياح القارية التي تهبّ من القطبين الشمالي والجنوبي نحو خطّ الإستواء وبالعكس وتدعى «اليزه» و«كنتر اليزه»؟؟ . وهناك الرياح الإقليمية التي تهب وفق نظام معين، وتعتبر قوة طبيعية لتحريك السفن نحو مقاصدها.
وهكذا خاصية الخشب، أو خاصية القوّة الدافعة التي يسلطها الماء على الأجسام الغاطسة فيه، فيجعل هذه السفن تطفو على سطح الماء.
أضف إلى ذلك خاصية القطبين المغناطيسيين للكرة الأرضية، التي تساعد البحارة باستخدام البوصلة أن يعرفوا اتجاههم في وسط البحار، إضافة إلى استفادتهم من نظام حركة الكواكب في معرفة جهة السير.
كل هذه الأنظمة تساعد على الإستفادة من الفلك(475)ي، وتعطي دلي محسوساً على قدرة الله وعظمته، وتعتبر آية من آيات وجوده.
استعمال المحركات الوقودية بدل الأشرعة في السفن اليوم، لم يقلل أهمية هذه الظاهرة، بل زادها عجباً ودهشة، إذ نرى اليوم السفن العملاقة التي تشبه مدينة بجميع مرافقها، تطفو على سطح الماء وتتنقل بفنادقها وساحات لعبها وأسواقها، بل ومدارج للطائرات فيها ... على ظهر البحار والمحيطات. 4 ـ (وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّة ...).
من مظاهر قدرة الله وعظمته المطر الذي يحيي الأرض، فتهتز ببركته وتنمو فيها النباتات وتحيا الدواب بحياة هذه النباتات، وكل هذه الحياة تنتشر على ظهر الأرض من قطرات ماء لا حياة فيها. 5 ـ (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ...)، لا على سطح البحار والمحيطات لحركة السفن فحسب، بل على الجبال والهضاب والسهول أيضاً لتلقيح النباتات فتخرج لنا ثمارها اليانعة.
وتارة تعمل على تحريك أمواج المحيطات بصورة مستمرة ومخضها مخض السقاء لايجاد محيط مستعد لنمو وحياة الكائنات البحرية.
واُخرى تقوم بتعديل حرارة الجو وتلطيف المناخ بنقلها حرارة المناطق الاستوائية إلى المناطق الباردة، وبالعكس.
واحياناً تقوم بنقل الهواء الملوّث الفاقد للاوكسجين من المدن إلى الصحاري والغابات لمنع تراكم السموم في الفضاء.
أجل فهبوب الرياح مع كل تلك البركات والفوائد علامة اُخرى على حكمة البارئ ولطفه الدائم. 6 ـ (وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ ...) والسحب المتراكمة في أعالي الجو، المحمّلة بمليارات الأطنان من المياه خلافاً لقانون الجاذبية، والمتحركة من نقطة إلى اُخرى دون ايجاد خطر، من مظاهر عظمة الله سبحانه.
إضافة إلى أن هذا الودق (المطر) الَّذي يخرج من خلال السحاب يحيي الأرض، وبحياة الأرض تحيا النباتات والحيوانات والإِنسان، ولولا ذلك لتحولت الكرة الأرضية إلى أرض مقفرة موحشة. وهذا مظهر آخر لعلم الله سبحانه وقدرته.
وكل تلك العلامات والمظاهر (لآيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ)، لا للغافلين الصم البكم العمي.

اسم الکتاب : تفسير الأمثل المؤلف : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    الجزء : 1  صفحة : 25
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست