العالم ، وأن ينسب إليه أن الأقوى منهما هو قوله الثانى الذى به يقول وله
يعتقد ، وأن الأضعف منهما هو الأوّل منهما الذى تركه إلى الثانى. فإن تساوى
القولان فى القوّة وجب أن يعتقد فيهما أنهما رأيان له ؛ فإنّ الدواعى إلى تساويهما
فيهما عند الباحث عنهما هى الدواعى التى دعت القائل بهما إلى أن اعتقد كلا منهما.
هذا بمقتضى
العرف ، وعلى إحسان الظن ؛ فأمّا القطع الباتّ فعند الله علمه.
وعليه طريق
الشافعىّ فى قوله بالقولين فصاعدا. وقد كان أبو الحسن ركّابا لهذا الثّبج [١] ، آخذا به ، غير محتشم منه ، وأكثر كلامه فى عامّة كتبه
عليه. (وكنت إذا ألزمت عند أبى علىّ ـ رحمهالله ـ قولا لأبى الحسن شيئا لا بدّ للنظر من إلزامه إيّاه
يقول لى : مذاهب أبى الحسن كثيرة).
ومن الشائع فى
الرجوع عنه من المذاهب ما كان أبو العباس تتبّع به كلام سيبويه ، وسمّاه مسائل
الغلط. فحدّثنى أبو علىّ عن أبى بكر أن أبا العبّاس كان يعتذر منه ويقول : هذا شيء
كنّا رأيناه فى أيّام الحداثة ، فأمّا الآن فلا. وحدّثنا أبو علىّ ، قال : كان أبو
يوسف [٢] إذا أفتى بشىء أو أملّ شيئا ، فقيل له : قد قلت فى موضع كذا غير هذا يقول
: هذا يعرفه من يعرفه ؛ أى إذا أنعم النظر فى القولين وجدا مذهبا واحدا.
وكان أبو علىّ
ـ رحمهالله ـ يقول فى هيهات : أنا أفتى مرّة بكونها اسما سمى به
الفعل ؛ كصه ومه ، وأفتى مرّة أخرى بكونها ظرفا ، على قدر ما يحضرنى فى الحال.
وقال مرّة أخرى : إنها وإن كانت ظرفا فغير ممتنع أن تكون مع ذلك اسما سمّى به
الفعل ؛ كعندك ودونك. وكان إذا سمع شيئا من كلام أبى الحسن يخالف قوله يقول : عكّر
الشيخ. وهذا ونحوه من خلاج الخاطر ، وتعادى المناظر ، هو الذى دعا أقواما إلى أن
قالوا بتكافؤ الأدلّة ، واحتملوا أثقال الصّغار والذّلّة.
وحدّثنى أبو
على : قال : قلت لأبى عبد الله البصرىّ : أنا أعجب من هذا
[١] ثبج كل شيء :
معظمه ووسطه وأعلاه ، والجمع أثباج وثبوج.
[٢]هو يعقوب بن
إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشىّ الزهرىّ أبو يوسف المدنى
، نزيل بغداد ، من شيوخ الإمام أحمد بن حنبل ، مات سنة ٢٠٨ ، انظر تهذيب الكمال ٣٢
/ ٣١٠.