اعلم أن علل
النحويين ـ وأعنى بذلك حذّاقهم المتقنين لا ألفافهم [٢] المستضعفين ـ أقرب إلى علل المتكلمين ، منها إلى علل
المتفقهين. وذلك أنهم إنما يحيلون على الحسّ ، ويحتجّون فيه بثقل الحال أو خفّتها
على النفس ؛ وليس كذلك حديث علل الفقه. وذلك أنها إنما هى أعلام ، وأمارات ، لوقوع
الأحكام ، ووجوه الحكمة فيها خفيّة عنا ، غير بادية الصفحة [٣] لنا ؛ ألا ترى أن ترتيب مناسك الحج ، وفرائض الطهور ،
والصلاة ، والطلاق ، وغير ذلك ، إنما يرجع فى وجوبه إلى ورود الأمر بعمله ، ولا
تعرف علة جعل الصلوات فى اليوم والليلة خمسا دون غيرها من العدد ، ولا يعلم أيضا
حال الحكمة والمصلحة فى عدد الركعات ، ولا فى اختلاف ما فيها من التسبيح والتلاوات
؛ إلى غير ذلك مما يطول ذكره ، ولا تحلى [٤] النفس بمعرفة السبب الذى كان له ومن أجله ؛ وليس كذلك
علل النحويين. وسأذكر طرفا من ذلك لتصحّ الحال به.
[١] لما كان هم أبى
الفتح فى هذا الكتاب إبداء حكمة العرب وسداد مقاصدهم فيما أتوا فى لغتهم ، وكان
ذلك بإبداء العلل لسننهم وخططهم فى تأليف لسانهم أخذ نفسه فى تقوية العلل التى
تنسب إلى أفعالهم وتحمل عليهم ؛ وهو ما يقوم به النحويون. وكان من دواعى ذلك أن
اشتهر بين الناس ضعف علل النحاة ؛ فهذا ابن فارس يقول:
مرّت بنا هيفاء مجدولة
تركية تنمى لتركى
ترنو بطرف فاتر فاتن
أضعف من حجة نحويّ
انظر وفيات ابن خلكان ص ٣٦ ج ١ فى ترجمة
ابن فارس. (نجار).
[٢] يقال جاء القوم
بلفّهم ولفّتهم ولفيفهم أى بجماعتهم وأخلاطهم ؛ وجاء لفهم ولفّهم ولفيفهم كذلك ،
واللفيف : القوم يجتمعون من قبائل شتى ليس أصلهم واحدا ... ، واللفيف الجمع العظيم
من أخلاط شتّى فيهم الشريف والدنىء والمطيع والعاصى والقوى والضعيف. اللسان (لفف).
[٣] الصفحة : الجنب
والجانب ، وهو كناية عن الظهور والوضوح.
[٤] أى لا تظفر ،
يقال : حليت من فلان بخير : أصبته وأدركته ، ومن ذلك قولهم : ما حليت من هذا الأمر
بطائل ، وهو من باب علم.