فَإِنَّ الْمَوْتَ هَادِمُ لَذَّاتِكُمْ، وَ مُكَدِّرُ شَهَوَاتِكُمْ، وَ مُبَاعِدُ طِيَّاتِكُمْ. زَائِرٌ غَيْرُ مَحْبُوبٍ، وَ قِرْنٌ غَيْرُ مَغْلُوبٍ، وَ وَاتِرٌ غَيْرُ مَطْلُوبٍ. قَدْ أَعْلَقَتْكُمْ حَبَائِلُهُ، وَ تَكَنَّفَتْكُمْ غَوَائِلُهُ، وَ أَقْصَدَتْكُمْ مَعَابِلُهُ. وَ عَظُمَتْ فِيكُمْ سَطْوَتُهُ وَ تَتَابَعَتْ عَلَيْكُمْ عَدْوَتُهُ، وَ قَلَّتْ عَنْكُمْ نَبْوَتُهُ. فَيُوشِكُ أَنْ تَغْشَاكُمْ دَواجِي ظُلَلِهِ وَ احْتِدَامُ عِلَلِهِ، وَ حَنَادِسُ غَمَرَاتِهِ، وَ غَوَاشِي سَكَرَاتِهِ، وَ أَلِيمُ إِزْهَاقِهِ، وَ دُجُوُّ إِطْبَاقِهِ، وَ جُشُوبَةُ مَذَاقِهِ. فَكَأَنْ قَدْ أَتَاكُمْ بَغْتَةً فَأَسْكَتَ نَجِيَّكُمْ، وَ فَرَّقَ نَدِيَّكُمْ، وَ عَفَّى آثَارَكُمْ، وَ عَطَّلَ دِيَارَكُمْ، وَ بَعَثَ وُرَّاثَكُمْ يَقْتَسِمُونَ تُرَاثَكُمْ، بَيْنَ حَمِيمٍ خَاصٍّ لَمْ يَنْفَعْ، وَ قَرِيبٍ مَحْزُونٍ لَمْ يَمْنَعْ، وَ آخَرَ شَامِتٍ لَمْ يَجْزَعْ.
فضل الجدّ
فَعَلَيْكُمْ بِالْجِدِّ وَ الْاجْتِهَادِ، وَ التَّأَهُّبِ و الْاسْتِعْدَادِ، وَ التَّزَوُّدِ فِي مَنْزِلِ الزَّادِ. وَ لَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا كَمَا غَرَّتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، الَّذِينَ احْتَلَبُوا دِرَّتَهَا، وَ أَصَابُوا غِرَّتَهَا، وَ أَفْنَوْا عِدَّتَهَا، وَ أَخْلَقُوا جِدَّتَهَا. وَ أَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ أَجْدَاثاً، وَ أَمْوَالُهُمْ مِيرَاثاً. لَايَعْرِفُونَ مَنْ أَتَاهُمْ، وَ لَايَحْفِلُونَ مَنْ بَكَاهُمْ، وَ لَا يُجِيبُونَ مَنْ دَعَاهُمْ، فَاحْذَرُوا الدُّنْيَا فَإِنَّهَا غَدَّارَةٌ غَرَّارَةٌ خَدُوعٌ، مُعْطِيَةٌ مَنُوعٌ، مُلْبِسَةٌ نَزُوعٌ، لَايَدُومُ رَخَاؤُهَا، وَ لَايَنْقَضِي عَنَاؤُهَا، وَلَا يَرْكُدُ بَلَاؤُهَا.
منها في صفة الزهاد: كانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا، فَكَانُوا فِيهَا كَمَنْ لَيْسَ مِنْهَا، عَمِلُوا فِيهَا بِمَا يُبْصِرُونَ، وَ بَادَرُوا فِيهَا مَا يَحْذَرُونَ، تَقَلَّبُ أَبْدَانُهُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِ الْآخِرَةِ، وَ يَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ وَ هُمْ أَشَدُّ إِعْظَاماً لِمَوْتِ قُلُوبِ أَحْيَائِهِمْ.