وَ انَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ، وَ يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ، وَ بَقَاءٍ مِنْ لُبّهِ يُفَكّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمْرَهُ، وَ فِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ! وَ يَتَذَكَّرُ أَمْوَالًا جَمَعَهَا، أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا، وَ أَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَ مُشْتَبِهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا وَ أَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا، تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا، وَ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ، وَالْعِبْءُ عَلَى ظَهْرِهِ. وَالْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا، فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ، وَ يَزْهَدُ فِيَما كانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمْرِهِ، وَ يَتَمَنَّى أَنَّ الَّذي كانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَ يَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ! فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ، فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ، وَ لَا يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ: يُرَدّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ، يَرَى حَرَكاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَ لَا يَسْمَعُ رَجْعَ كَلامِهِمْ ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً بِهِ. فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ. وَ خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ، فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ، قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ، وَ تَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ. لَايُسْعِدُ بَاكياً، وَ لَا يُجِيبُ دَاعِياً. ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي الْأَرْضِ، فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ، وَ انْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ.
القيامة
حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَ الْأَمْرُ مَقَادِيرَهُ، وَ أُلْحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ، وَجَاءَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ، أَمادَ السَّمَاءَ وَ فَطَرَهَا، وَ أَرَجَّ الْأَرْضَ وَ أَرْجَفَهَا، وَ قَلَعَ جِبَالَهَا وَ نَسَفَهَا. وَدَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلَالَتِهِ وَ مَخُوفِ سَطْوَتِهِ، وَ أَخْرَجَ مَنْ فِيهَا فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلَاقِهِمْ، وَ جَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ. ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ خَفَايا الْأَعْمَالِ وَ خَبَايَا الْأَفْعَالِ، وَ جَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ: أَنْعَمَ عَلَى هؤُلاءِ