وَ أَخْوَفُهُمْ لَكَ، وَ أَقْرَبُهُمْ مِنْكَ؛ لَمْ يَسْكُنُوا الْأَصْلَابَ، وَ لَمْ يُضَمَّنُوا الْأَرْحَامَ، وَ لَمْ يُخْلَقُوا «مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ»، وَ لَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ «رَيْبُ الْمَنُونِ»؛ وَ إِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهِمْ مِنْكَ، وَ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ، وَ اسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ، وَ كَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ، وَ قِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ؛ لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ، وَ لَزَرَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَ لَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، وَ لَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ.
عصيان الخلق
سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَ مَعْبُوداً! بِحُسْنِ بَلائِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ خَلَقْتَ دَاراً، وَ جَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً: مَشْرَباً وَ مَطْعَماً، وَ أَزْوَاجاً، وَ خَدَماً، وَ قُصُوراً، وَ أَنْهَاراً، وَ زُرُوعاً، وَ ثِمَاراً، ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا، فَلَا الدَّاعِيَ أَجَابُوا، وَ لَافِيَما رَغَّبْتَ رَغِبُوا، وَ لَاإِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا. أَقْبَلُوا عَلَى جِيْفَةٍ قَدِ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا، وَ اصْطَلَحُوا عَلَى حُبّهَا، وَ مَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ وَ أَمْرَضَ قَلْبَهُ، فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ، وَ يَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ، قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ، وَ أَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ، وَ وَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ، فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا، وَ لِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا، حَيْثَما زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا، وَ حَيْثَما أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا؛ لَايَنْزَجِرُ مِنَ اللَّهِ بِزَاجِرٍ، وَ لَا يَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ، وَ هُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ عَلَى الْغِرَّةِ، حَيْثُ لَاإِقَالَةَ وَ لَارَجْعَةَ، كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَاكَانُوا يَجْهَلُونَ، وَجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِالدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ، وَ قَدِمُوا مِنَ الآخِرَةِ عَلَى مَاكانُوا يُوعَدُونَ، فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ، اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وَ حَسْرَةُ الْفَوْتِ، فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ، وَ تَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ، ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً، فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَ بَيْنَ مَنْطِقِهِ،