و أمّا الذي هو خارجٌ عن العقل فهو أحكامُ القوّة الوهميّةِ الّتي يحكم[1] بها جزماً و بالضرورة الوهميّة إذا كانت تلك الأحكامُ في أمور ليس فيها للعقل حكمٌ أوّلي و تلك الأمورُ مع ذلك خارجةٌ عن المحسوسات، فيضطرُّ الوهمُ النّفسَ إلي حكم ضروري فيها كاذب، إذ يجعلها في احكامِ ما يحسّ، مثل حكم النّفس ـ في أوّل مايوجد مميّزه[2] و قبل أن تثقف بالآراء و النّظر ـ أنّ كلّ موجود فهو في مكان أو في حيّز مشار إليه، و أنّ الشّيء الّذي ليس في داخل العالم و لا في خارجه فليس بموجود، فإنّ النّفسَ تحكم بهذا بالضرورة، و لا يكون العقلُ هو الموجبُ لهذا، و لكن يكون ساكتاً عن هذا. ثمّ اذا نظر العقلُ النّظَر الّذي يخصّه و ألّف قياسات من مقدّمات مشتركةِ القبول بين العقل و بين قوي أخري ـ إن كان لها حكم في القبول و التّسليم ـ انتج أنَّ للمحسوسات[3] مبادي مخالفةً للمحسوسات، فإذا انتهي النّظر إلي النّتيجة مانَعَت القوّةُ الّتي تحكم الحكمَ المذكور، فَيُعلم أنّها كاذبة ضرورةً، و أنّ فطرتَها و ضرورتَها غيرُ الضّرورة العقليّة و إن كانت ضرورةً قويّةً في أوّل الأمر. و أوّل ما يكذّبها أنّها نفسَها لا تدخل في الوهم. و مع ذلك فإنّه قد يصعب علينا التّمييزُ بين الضّرورتين، إِلاّ أن ننظرَ في موضوع المطلوب و محموله، فإن كان شيئاً أعمَّ من المحسوس أو خارجاً عنه و كانت الضرورة تدعو إلي جعله علي صورة محسوسة لم نلتفت اليها بل نفرغ[4] إلي الحجة.
و الموجودُ و الشّيءُ و العلّةُ و المبدءُ و الكلّي و الجزئي و النّهايةُ و ما أشبه ذلك كلُّها خارجةٌ عن الأمور المحسوسة، بل حقائقُ النوعيات أيضاً مثل حقيقة الإنسان، فانّها ممّا لا يتخيّل البتّةَ و لا تتمثل في أوهامنا، بل إنّما ينالها عقلُنا.
و كذلك كلُ حقيقة كلّية من حقائقِ نوعيّاتِ الأمور الحسيّة فضلا عن العقليّة كما سنّبين ذلك في موضعه، فمبادئُ البراهين الّتي من جنس المدركات بالضرورة/هي/من هذه الّتي تدرك و يصدّق بها بالضّرورة الحقيقيّة دونَ تلك الوهميّة.
[1] تحكم (ظ). [2] ما توجد مميّزةً (ظ). [3] للمعقولات (ظ). [4] نفزع (ظ).