responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : منتهى المطلب - ط الجديدة المؤلف : العلامة الحلي    الجزء : 1  صفحة : 0
الكتاب: منتهى المطلب (ط.ج) المؤلف: العلامة الحلي الجزء: 1 الوفاة: 726 المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن تحقيق: قسم الفقه في مجمع البحوث الإسلامية الطبعة: الأولى سنة الطبع: 1412 المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضوية المقدسة الناشر: مجمع البحوث الإسلامية - إيران - مشهد ردمك: ملاحظات:
بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف الكتاب 1
منتهى المطلب في تحقيق المذهب للعلامة الحلي الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر [648] ه‌ - [726] ه‌ الجزء الأول تحقيق قسم الفقه في مجمع البحوث الإسلامية.
تعريف الكتاب 3
الكتاب: منتهى المطلب في تحقيق المذهب المؤلف: العلامة الحلي.
التحقيق: قسم الفقه في مجمع البحوث الإسلامية.
الخط والإخراج: الحافظ علاء البصري الناشر: مجمع البحوث الإسلامية، إيران مشهد ص. 336 / 91735 الطبعة: الأولى 1412 ق.
العدد: 3000 نسخة.
الطبع: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضوية المقدسة
تعريف الكتاب 4
تقديم بقلم الدكتور محمود البستاني
كلمة المقدم 5
بسم الله الرحمن الرحيم [1] يعد " العلامة الحلي " واحدا من أبرز الأسماء التي أفرزتها عصور التأريخ الفقهي، وإذا كان التأريخ الفقهي قد حفل بأسماء كثيرة من المتميزين، فإن هناك في صعيد المتميزين أنفسهم أسماء متفوقة معدودة فرضت فاعليتها بنحو متفرد في ميدان النشاط الفقهي، حيث يجئ " العلامة " في مقدمة الأسماء المشار إليها.
ويتمثل هذا النشاط " نوعيا " في " تطوير " الممارسة الفقهية وغيرها من ضروب المعرفة، أي: إدخال الجديد من أدوات الممارسة فضلا عن اتشاحها بالمشمول والعمق والدقة.
وأما " كميا " فيتمثل هذا النشاط في تنويع المعرفة " فقه "، أصول، كلام، رجال،. إلخ " حيث لا تنحصر نشاطات " العلامة " في ضرب واحد منها، بل يتجاوزها إلى مختلف ضروب المعرفة، وحتى في ميدان المعرفة الواحدة - من نحو النشاط الفقهي مثلا - توفرت هذه الشخصية على مصنفات مختلفة عرفت بمختصراته ومتوسطاته ومطولاته، فضلا عن كونها تصب في اتجاهات متنوعة تتوزع بين النمط الاستدلالي والفتوائي والتراوح بينهما وبين المنهج المقارن وغير المقارن. إلخ.
يضاف إلى ذلك: أن هذه الشخصية قد اقترن نشاطها العلمي بنشاط اجتماعي أكسبها مزيدا من الأهمية التأريخية، حيث احتلت موقعا رياديا بالنسبة إلى " المؤسسة المرجعية " مثلما احتلت موقعا له فاعليته في الحياة الاجتماعية العامة، حيث كان الصراع بين الطائفة وبين الاتجاهات المذهبية من جانب، وفترات المد والجزر من جانب آخر، يضفي على هذه
كلمة المقدم 7
الشخصية أهمية اجتماعية خاصة، تكسبها مزيدا من الاهتمام التأريخي بها.
إننا لن نتحدث عن " الموقع الاجتماعي " للعلامة، وانعكاسات الوضع السياسي على نشاطه، حيث توفرت المصادر التي تعنى بالسيرة والتأريخ على هذا الجانب، كما لن نتحدث عن نشاطه العلمي بعامة، ومساهمته الفذة في نشر المذهب، ولن نتحدث عن مجمل نشاطه الذي يحوم على الجانب الثقافي، فيما يقول عنه مترجموه بأن حصيلة ذلك أكثر من مائة كتاب أو يزيد على ذلك، لن نتحدث عن ذلك كله، بل نحصر حديثنا في صعيد النشاط الفقهي المتمثل في أحد كتبه فحسب، وهو: " المنتهى " دون مصنفاته الأخرى التي قد تتماثل منهجا وممارسة في بعض الجوانب، مثل: " التذكرة " و " المختلف " فيما يتميز كل منهما بسمات خاصة قد نعرض لها عابرا خلال حديثنا عن الكتاب المشار إليه.
[2] " المنتهى " كتاب ضخم يتشح بطابعين هما: " الاستدلال " و " المقارنة ". أما " الاستدلال " فإن التأريخ الفقهي الذي سبق " العلامة " قد شهد تطورا ملحوظا فيه، على يد رواد كبار أمثال " الشيخ المفيد " و " السيد المرتضى " و " الشيخ الطوسي " ومن سواهم، فيها يمكن ملاحظة ذلك في كتب عديدة من نحو: " الإنتصار " و " الناصريات " الممارسات الاستدلاية لدى " ابن إدريس " في " سرائره " و " ابن زهرة " في " غنيته " و " المحقق " في " معتبره " حيث يظل هذا الأخير قريبا من " العلامة " من حيث النسب، ومن حيث المستوى العلمي في تطويره للممارسة الفقهية منهجا وفكرا.
إن هذه المقدمة لا تسمح لنا بمتابعة خطوط التطور الذي شهدته الأجيال الفقهية المختلفة، بدءا من نماذج الاستدلال العابر " لدى الرواة المعاصرين " للمعصومين عليهم السلام " حيث ومضت نماذج منه لدى بعض الرواة عصرئذ مرورا ب‌ " نشأته " مع عصر الغيبة - فيما يشير المعنيون بشؤون الفقه - إلى توفره لدى أسماء من مثل: " ابن الجنيد " و " ابن أبي عقيل "، وامتداد إلى أسماء متميزة مثل: " الصدوق "، وانتهاءا إلى الأسماء الرائدة التي
كلمة المقدم 8
أشرنا إليها حيث يمكن القول بأن خطوط التطور تظل ملحوظة لدى هذه الأسماء بشكل أو بآخر بما يواكبها من " أدوات أصولية " يشير إليها المؤرخون، أو ما وصل إلى أيدينا منه مثل: " الرسالة الموجزة في الأصول " للمفيد، و " الذريعة " للمرتضى و " العدة " ل‌ " الطوسي "، ومثل: " المقدمات التي كتبها " ابن زهرة " في " الغنية " و " المحقق " في " المعتبر ومن سواهم. وبالرغم من أن الأداة الأصولية - في مستوى النظرية - لا تعني أن الفقيه يمارس عملية " تطبيق " شاملة لمبادئ " الأصول " التي يصوغها، إلا أن انعكاسات ذلك على الممارسات الفقهية - ولو في نطاق محدود - يظل تعبيرا عن خطوط التطور الذي أشرنا إليه، ومن ثم يظل مؤشرا إلى مستويات التطور الفكري الذي يمكن ملاحظته لدى " العلامة " فيما يعد نقطة تحول ملحوظة في هذا الميدان.
أما الطابع الآخر، ونعني به: " المقارنة " فإن كلا من " المفيد " و " المرتضى " و " الطوسي " يمثلون أسماءا رائدة في هذا الصعيد، يمكن الذهاب إلى طبيعة الحياة الاجتماعية: سياسيا، ومذهبيا، وعلميا، مضافا إلى شخصياتهم الرائدة - من حيث كونهم ممثلين للمؤسسة المرجعية في قمة هرمها الاجتماعي - فرضت على الأسماء المشار إليها نوعا من النشاط الفقهي القائم على " المقارنة " بين المذهب الإمامي وبين المذاهب العامة الأخرى، حيث شهدت تلكم المذاهب أيضا نشاطا مماثلا فيما بينهما في صعيد المقارنة.
المهم أن نشاط فقهائنا في ميدان " المقارنة " تجسد بوضوح في مصنفات أشرنا إليها من نحو " الإنتصار " " الناصريات " " الخلاف " وما سواها من الكتب التي يشير إليها المؤرخون لدى المفيد والمرتضى والطوسي وغير هم، مما نلحظ شذرات منه في الأجيال اللاحقة أيضا.
لا شك، أن " العلامة " قد أفاد من الأسماء المذكورة، كما أنه تأثر ببعض خطوط مناهجهم في " المقارنة " و " الاستدلال " أيضا إلا أنه - في الحصيلة العامة - أضاف جديدا، كما هو طابع أية شخصية متميزة رائدة، بحيث تمتد في الماضي، وتصنع الحاضر وتقدم جديدا يترك أثره على اللاحق، بما تمتلكه من قدرة ذاتية على الكشف في ممارساتها العلمية، بحيث يقتادها ذلك إلى الإسهام في تطوير في المعرفة وأدواتها، بالنحو الذي نلحظه لدى " العلامة " في كتابه: " المنتهى " الذي نتحدث عنه، أو كتبه الأخرى التي تكشف عن
كلمة المقدم 9
تطويره لعنصري: الاستدلال، والمقارنة.
ونبدأ في الحديث عن منهجه أولا، من حيث: [3] المقارنة: " المقارنة " نوع من النشاط العلمي الذي خبرته ضروب المعرفة الإنسانية في حقول التربية، والنفس، والاجتماع، والاقتصاد. إلخ، بصفة أن مقارنة الشئ مع الآخر سواءا كان ذلك من خلال " التماثل " القائم بينهما، أو من خلال " التضاد " بينهما - يسهم في بلورة وتعميق المفهوم الذي يستهدفه الباحث.
. المقارنة تتم - كما هو ملاحظ في البحوث المعاصرة - في مستويات مختلفة، منها: " المقارنة المستقلة " التي تقوم أساسا على الموازنة بين ضربين من المعرفة - كما لو قمنا بمقارنة بين الإسلام مثلا وبين الأديان الأخرى - وهذا ما يندرج ضمن الأبحاث التي تأخذ شكلا له استقلاليته في الدراسات الحديثة بخاصة.
كما أن هناك نوعا من المقارنة التي تشكل عنصرا واحدا من عناصر البحث دون أن تستقل بالمقارنة، أي: تكون " المقارنة " جزءا من أجزاء البحث.
هذا فضلا عن أن المقارنة بقسميها المتقدمين قد تكون " شاملة " تتناول جميع الجوانب المبحوث عنها، مقابل المقارنة " الموضعية " التي تتناول جانبا واحدا أو عملا منحصرا لدى كتاب واحد أو مؤلف واحد على سبيل المثال.
ويلاحظ أن فقهاءنا قد توفروا على شتى مستويات " المقارنة " التي أشرنا إليها قديما وحديثا بل يمكن القول بأنه لا يكاد أي كتاب استدلالي أو فتوائي - حينا - يخلو من أحد أشكال المقارنة، بل إن الممارسات الفقهية بنحو عام تتميز عن سواها من الممارسات التي خبرتها علوم النفس، والاجتماع، والتأريخ، والتربية، والأدب والفن، وسواها باعتمادها " المقارنة " عنصرا أو بحثا مستقلا لا يكاد كتاب فقهي يخلو منها في الغالب.
كل ما في الأمر أن المقارنة قد تأخذ صفة التغليب داخل المذهب مثلا مثلما تأخذ صفة كونها
كلمة المقدم 10
" عنصرا " من عناصر الممارسة الفقهية. أما المقارنة " المستقلة " و " الشاملة " فتأخذ حجما أصغر من الاهتمام الفقهي، حيث تسهم الظروف الاجتماعية في تضخيم أو تضئيل هذا الحجم، فيها لا يعنينا التحدث عنه الآن. ولكن يعنينا أن نشير إلى أن الفقهاء قديما وحديثا قد توفروا على هذا النمط من النشاط المقارن، وفي مقدمتهم " العلامة " حيث عرف بهذا النشاط من خلال قيامه بأبحاث ضخمة تناولت كلا من المقارنة داخل المذهب مثل: " المختلف "، وخارج المذهب أيضا مثل: " التذكرة " - في نطاق محدد - بينا جاءت مقارنته خارج المذهب " شاملة " متجسدة في كتابه الذي نتحدث عنه " المنتهى " فيما أكسبه مزيدا من الأهمية العلمية التي آن لنا نعرض لخطوطه المنهجية.
ويمكننا عرض الخطوط لمنهجه المقارن، وفقا لما يلي: 1 عرض الأقوال: تبدأ الخطوة الأولى من ممارساته بعرض الآراء الفقهية للمؤلف، أو وجهة النظر لفقهاء بعامة، أو أحد فقهائها، أو فقهاء المذاهب الأخرى، أو مطلق الفقهاء حسب ما يتطلبه سياق المسألة المطروحة حيث يتدخل مدى التوافق أو التخالف بين الآراء في منهجية العرض للأقوال. بيد أن الغالب يبدأ بوجهة نظر المؤلف طالما نعلم بأن هدف " المقارنة " أو مطلق الممارسات الفقهية ليس هو مجرد العرض للآراء بل تثبيت وجهة النظر الصائبة في تصور المؤلف. لذلك، فإن تثبيته وجهة نظره أولا، ثم عرض الآراء الأخرى، يظل خطوة منهجية لها مشروعيتها دون أدنى شك. كما أن إرداف وجهة نظره بأقوال فقهاء الطائفة يحمل نفس المشروعية ما دام هدف المقارنة - في أحد خطوطه - هو: إقناع " الجمهور " بصواب المذهب. لذلك، نجده بعد عرضه لوجهة نظره، ثم وجهة نظر فقهائنا، يتجه - في المرحلة الثالثة - إلى عرض وجهة نظر " الجمهور " وفي الحالات جميعا يلتزم المؤلف بالحياد العلمي من جانب، وبمتطلبات المنهج المقارن من جانب آخر، حيث يستقطب جميع الأقوال داخل المذهب وخارجه، على نحو ما نلحظه في الممارسة التالية مثلا، وهي تتناول مسح الرأس في عملية الوضوء:
كلمة المقدم 11
(الواجب من مسح الرأس لا يتقدر بقدر في الرجل، وفي المرأة يكفي منه أقل ما يصدق عليه الاسم. وبه قال الشيخ في " المبسوط "، والأفضل أن يكون بقدر ثلاث أصابع مضمومة، وبه قال السيد المرتضى، وقال في " الخلاف ": يجب مقدار ثلاث أصابع مضمومة، وهو اختيار ابن بابويه، وأبي حنيفة في إحدى الروايتين، وقال الشافعي: يجزي ما وقع عليه الاسم، وذهب بعض الحنابلة إلى أن قدر الواجب هو: الناصية وهو رواية عن أبي حنيفة، وحكي عن أحمد أنه لا يجزي إلا مسح الأكثر).
فالملاحظ هنا، أن المؤلف بدأ بتصدير فتواه، ثم بفتاوى الآخرين من فقهاء المذهب على اختلاف الآراء بين المرتضى والطوسي وابن بابويه - ثم عرض آراء " الجمهور " في مدى توافقها أو تخالفها مع " فقهاء الخاصة " من نحو ما نقله من الاتفاق بين ابن بابويه والطوسي وأبي حنيفة، ثم ما نقله من التفاوت بين آراء " العامة ". إلخ.
طبيعيا، لا يعني هذا أن المؤلف يلتزم بهذا المنهج في ممارساته جميعا بقدر ما يعني أن الطابع الغالب على مقارناته - كما قلنا - هو: السمة المذكورة وإلا نجده حينا يكتفي بالمقارنة " داخل المذهب " كما هو ملاحظ في الممارسة التالية: (في جواز إحرام المرأة في الحرير المحض: قولان، أحدهما: الجواز وهو اختيار " المفيد " في كتاب: أحكام النساء. واختاره " ابن إدريس " والآخر: المنع، اختاره " الشيخ ".
والأقوى: الأول).
ونجده حينا آخر يكتفي بالمقارنة " خارج المذهب " كما هو ملاحظ في الممارسة الآتية: (لو صلى المكتوبة بعد الطواف لم تجزه عن الركعتين. وبه قال الزهري ومالك أصحاب الرأي، وروي عن ابن عباس وعطاء وجابر بن زيد والحسن وسعيد بن جبير وإسحاق وعن أحمد روايتان).
وقد يتخلى أحيانا عن عرض الأقوال نهائيا، مكتفيا بوجهة نظره فحسب، من نحو معالجته للمسألة التالية: (مسألة: يحرم عمل الصور المجسمة وأخذ الأجرة عليه، روى ابن بابويه عن
كلمة المقدم 12
الحسين. إلخ).
وقد يتخلى حتى عن تقديم وجهة نظره مباشرة، مكتفيا من ذلك بإيراد الدليل، وهو: ما يدرج ضمن " الفتوى " بمتن الرواية على نحو ما نلحظه في الممارسة التالية: (فصل: روى الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يرشو الرجل الرشوة على أن يتحول من مسكنه فيسكنه؟ قال عليه السلام: لا بأس).
لكن - كما قلنا - إن أمثلة هذه الموارد التي يتخلى فيها عن المقارنة - في صعيد عرض الأقوال - تظل نادرة بالقياس إلى الطابع الغالب على ممارساته. وفي تصورنا: إن عدم خلاف يعتد به بين علماء الخاصة، أو بينهم وبين " العامة " أو كون المسألة المعروضة ذات طابع فرعي أو كون اللجوء إلى عرض الأقوال في المسائل جميعا تستتلي إطالة البحث أو قلة فائدته، أو كون المسألة لا يسمح الوقت بعرضها، أو كون الوقوف عليها يتعذر حينا، أو كونها غير مبحوث فيها، كل ذلك يفسر لنا السر الكامن وراء تخليه أحيانا عن عرض الأقوال شاملة.
وخارجا عن ذلك، يظل عرض الأقوال لدى المؤلف طابعا ملحوظا في غالبية ممارساته، حتى أنه ليقدم أحيانا قوائم ضخمة من الأسماء بنحو يثير الدهشة، حيث يعرض الأسماء الممثلة للمذاهب الرئيسة وما ترتبط بها من خطوط وتيارات داخل المذهب الواحد، كما يعرض الأسماء التي اندثرت مذاهبها، مضافا إلى أقوال كبار الصحابة والتابعين وسائر الفقهاء المتميزين في مختلف الفترات التأريخية، مما يكشف ذلك عن قابلية فذة في بذل الجهد للعثور على تلكم الأسماء واستخلاص أقوالها، بخاصة أن بيئته التأريخية لم تخبر وسائل الطباعة الحديثة، حيث يتطلب الوقوف على أقوال الفقهاء - في مختلف تياراتهم وأجيالهم - قابلية ضخمة لا تتوفر إلا لدى الأفذاذ، دون أدنى شك.
2 عرض الدليل الشخصي: بما أن المؤلف يبدأ غالبا " في عرضة للأقوال " بتصدير وجهة نظره، أو تخليلها ضمن العرض أو نهايته، حينئذ فإن الخطوة الثانية من منهجه المقارن تبدأ بعرض الدليل الشخصي
كلمة المقدم 13
الذي يمثل وجهة نظره. وسنرى عند حديثنا عن أدوات الاستدلال التي يستخدمها: أن المؤلف يعتمد أولا: الأدلة الرئيسة: " الكتاب، السنة. إلخ " ثم: الأدلة الثانوية من أصل عملي، وغيره، مضافا إلى أدوات الاستدلال العامة التي نعرض لها في حينه.
لكن، ما يعنينا الآن هو: منهج العرض، دون تفصيلاته، حيث يبدأ ذلك بالكتاب أو السنة أو الإجماع أو العقل، أو بثلاثة منها أو بإثنين أو بها جميعا: حسب توافر الأدلة التي تتاح له، أو يبدأ ذلك بدليل ثانوي أو بالأدلة جميعا: الرئيسي والثانوي. هذا إلى أن منهجه في عرضه للأدلة المشار إليها يبدأ بعبارة " لنا " وهي تشير إلى دليله الشخصي بطبيعة الحال، حيث يعرض الدليل الإجمالي أولا ثم يبدأ بتفصيله، وهذا ما يمكن ملاحظته في الممارسة الآتية: (مسألة: قال علماؤنا: النوم الغالب على السمع والبصر ناقض للوضوء. وهو مذهب المزني وإسحاق وأبي عبيد.
لنا: النص والمعقول.
أما النص، فقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة.).
وأما المعقول، فهو: أن النوم سبب لخروج الحدث. إلخ).
وبما أن ما يعنينا - في هذه الخطوة من منهجه - هو: عرض الدليل من خلال المقارنة ، وليس الدليل مطلقا - حيث نتحدث عنه لاحقا - حينئذ فإن عرضه لدليله الشخصي لا بد أن يتناسب مع منهجه المقارن الذي يحرص فيه على تقديم الأدلة متوافقة مع مبادئ الخاصة والعامة، لكن بما أن مبادئ العامة تظل مستهدفة من حيث حرصه على تحقيق عملية " الإقناع " لهم، حينئذ نجده يقدم أدلتهم أولا، ثم يتبعها بالدليل الخاص. من هنا يبدأ بعرض الدليل من " الكتاب " - إذا أمكن - بصفته دليلا مشتركا بين الخاص والعام، ثم من روايات " العامة " ثم يورد الروايات " الخاصة " حيث أن إيرادها أخيرا يظل أكثر إلزاما لهم من حيث كونها متوافقة مع أدلتهم من جانب مضافا إلى كون ذلك أسلوبا من أساليب " المجاملة " العلمية. ويمكن ملاحظة هذا المنهج - في عرض الأدلة - متمثلا في الممارسة الآتية عن مسوغات التيمم: (لنا: قوله تعالى: " فلم تجدوا ماء فتيمموا
كلمة المقدم 14
صعيدا. ".
وما رواه الجمهور عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله قال: " إن الصعيد الطيب.
ومن طريق الخاصة: وما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن سنان. إلخ).
واضح - كما قلنا - أن البدء بدليل الكتاب، فالرواية العامة، فالرواية الخاصة يحقق هدفا مزدوجا - في مجال البحث المقارن - هو: إقناع " العامة " أو إلزامهم من خلال أدوات استدلالهم، فضلا عن إقناع " الخاصة " بأدواتهم أيضا. والأمر نفسه حينما يتقدم بالأدلة الأخرى التي تشكل أدوات مشتركة بين الفريقين، حيث تتطلب المقارنة استخدام ما هو مشترك أيضا مثل: الإجماع، أو العقل، أو الأصل، وهو أمر يمكن ملاحظته في الممارسة الآتية التي استدل بها على طهارة الماء ومطهريته، مرتكنا - فضلا عن الكتاب والسنة - إلى الإجماع والعقل: (أما الإجماع: فلأن أحدا لم يخالف في أن الماء المطلق طاهر.
وأما المعقول: فلأن النجاسة حكم طارئ على المحل، والأصل: عدم الطريان ولأن تنجس الماء يلزم منه الحرج. إلخ).
والأمر نفسه يمكن ملاحظته بالنسبة إلى توسله بسائر الأصول الأخرى، كالاستصحاب مثلا، وهذا من نحو: (إذا أسر المشرك وله زوجة لم يؤسرها المسلمون، فالزوجية باقية، عملا بالاستصحاب).
لكن: إذا كان المؤلف يستخدم ما هو " مشترك " من الأدوات بين الفريقين، أو ما يختص بأدوات " الجمهور " فهذا لا يعني أنه يستخدم مطلق أدواتهم بقدر ما يعني أنه ينتخب من الأدوات ما لا يتعارض بنحو أساسي مع مبادئه الخاصة، كالقياس وغيره من المعايير المنهي عنها في الشريعة.
طبيعيا، أن غالبية الأدوات التي يتوكأ المؤلف عليها بالنسبة إلى أدوات الاستدلال لدى الجمهور، ليست حجة عند المؤلف، مثل رواياتهم الواردة من غير طرق الخاصة، ومثل عمل الصحابة، ومثل إجماعاتهم. إلا أنه يستخدمها بمثابة إلزام يستدل من خلاها على
كلمة المقدم 15
تثبيت وجهة نظره. حيث إن المسوغ لأمثلة هذا التوكؤ على أدلة السنة النبوية من طرقهم أو إجماعاتهم أو قول وعمل الصحابة دون القياس والاستحسان ونحوها من الأدلة التي تدخل ضمن " الرأي " هو: أن هذه الأدلة لا تتعارض مع أدلة " الخاصة " من حيث كونها مستندة إلى كلام النبي صلى الله عليه وآله أو فعله أو تقريره، كل ما في الأمر أن " طرقها " مشكوك فيها، أي: أنها ذات مظان شرعية من حيث المصدر دون طرقه الكاشفة عنه، وهذا بخلاف الأدلة المستندة إلى " الرأي " المنهي عنه شرعا، حيث لا مستند لها البتة، لذلك يمكن الاستدلال بالرواية أو الإجماع أو عمل الصحابة " في مقام إلزامهم " على العكس من أدلة " الرأي "، فروايات الجمهور - مثلا - حيال طهارة ومطهرية الماء، أو إجماعهم على عدم انفعال الكثير منه بالنجاسة، أو عمل الصحابة في عدم الالتفات إلى " تغير " الماء الذي لا يمكن التحرز منه بالنسبة إلى مطهريته. أمثلة هذه الأدلة التي استند إليها المؤلف تظل أدوات معززة لدليل " الخاصة ": من حيث استنادها إلى مصدر " شرعي " بالرغم من أنها ذات طرق مشكوك في حجتها ولكنها ما دامت - بشكل أو بآخر - تدعي الانتساب إلى ما هو " شرعي "، فحينئذ لا مانع من التوكؤ عليها في صعيد " الإلزام " للمخالف.
وفي ضوء هذه الحقائق يمكننا أن نستشهد ببعض ممارسات المؤلف في تعامله مع أدلة الجمهور في مرحلة عرض الأدلة، سواء أكان ذلك في صعيد التعامل مع " الروايات " أو " الإجماع " أو " قول وفعل الصحابي ".
أما بالنسبة إلى تعامله مع الرواية، فنجده يرتكن - بنحو عام - إلى معايير الجمهور في " التعديل والجرح " لها، حيث إن المقارنة تفرض عليه أن يعتمد معايير الطرف الآخر من أطراف المقارنة. لذلك يحرص على تقديم الرواية المعتبرة سندا لدى الجمهور، حتى أنه ليشير أحيانا إلى كونها " معتبرة " من خلال التنصيص عليها. وهذا من نحو تعقيبه على الروايات التي ساقها للتدليل على عدم طهارة جلد الميتة حتى لو دبغ، حيث علق على إحداها قائلا: (ورواه أبو داود، قال: إسناده جيد) وعقب على أخرى، قائلا: (وإسناده حسن).
بالمقابل نجده في مرحلة ردوده على أدلة الآخرين - كما سنرى لاحقا - يرفض الرواية
كلمة المقدم 16
الضعيفة مستندا أيضا لمعاييرهم في " التجريح ". وهذا يعني أن المؤلف يظل ملتزما بما تفرضه متطلبات المقارنة بين الأطراف من حيث الركون إلى معاييرهم في تعديل الرواية أو تجريحها.
لكن، ثمة ملاحظة لا مناص من تسجيلها هنا، وهي: أن المؤلف يعتمد على الرواية العامية مع كونها غير معتبرة، في نظره من أجل " إلزام المخالف " حيث يصرح بكونها " غير معتبرة " ولكنه يقدمها بمثابة " إلزام " للمخالف. فمثلا، في تقديمه لإحدى الروايات التي تزعم أن النبي صلى الله عليه وآله قد سلم في ركعتي الرباعية نسيانا، وتكلم بعد ذلك مستفسرا بعد أن نبه على ذلك حيث ساقها المؤلف للتدليل على جواز التكلم علق قائلا: (لنا. ورواية ذي اليدين - وهي الرواية التي ساقها للتدليل على جواز التكلم لمن ظن الإتمام - وإن لم تكن حجة لنا، فهي في معرض الإلزام). كذلك، في تعقيبه على صلاة جعفر حيث قدم رواية من الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وآله علم العباس بن عبد المطلب تلكم الصلاة، بينا تشير الروايات الواردة من طرق الخاصة أنه صلى الله عليه وآله قد علمها " جعفرا " فيما عقب المؤلف على ذلك قائلا: (ونحن إنما ذكرنا تلك الرواية احتجاجا على أحمد النافي لمشروعيتها). أمثلة هذه النماذج تكشف عن أن المؤلف يعنيه أن يلزم المخالف في الدرجة الأولى حتى لو كان ذلك على حساب الرواية الضعيفة.
لذلك - كما قلنا - لا يتقبل الرواية الضعيفة في مرحلة " الرد " من جانب مضافا إلى أنه لا يتقبلها مطلقا - في حالة مناقشته للخاصة - من جانب آخر، وهذا ما نلحظه في تعليقه على رواية للجمهور، احتج بها الطوسي في عدم جواز تقدم المرأة على الرجل في الصلاة، قائلا: (إنه غير منقول من طرقنا فلا تعويل عليه) فالمؤلف هنا يرفض الرواية العامية حتى لو كانت معتبرة لدى العامة - عند مناقشته الخاصة - ما دامت ليست حجة من حيث طرقها ولكنه يتقبلها في معرض إلزامه للمخالف، مع ملاحظة أنه يخضعها لمعايير التعديل والجرح عند تعامله مع الجمهور، إلا في حالة الإلزام، حيث لا يلتزم بصحة الرواية أو عدمها للسبب الذي ذكرناه. وهذا يعني أن المؤلف يأخذ طرفي المقارنة بنظر الاعتبار حتى أننا لنجده في
كلمة المقدم 17
تعامله مع الرواية الواحدة - من حيث طرفي المقارنة - يخضعها لمستويين من التعامل، حيث وجدناه يرفض الرواية التي احتج بها " الطوسي، " من خلال " السند "، ولكنه عندما يناقش أبا حنيفة - حيث احتج أيضا بالرواية المذكورة - نجده يرفض الرواية ليس من حيث " سندها " بل من حيث " دلالتها " فيما عقب عليها قائلا: (لا يصح احتجاج أبي حنيفة، لأنه إذا وجب أن يؤخرها، وجب عليها أن تتأخر، ولا فرق بينهما، بل الأولى أن يقول: إن المنهي هي المرأة عن التقدم).
لا شك، أن أمثلة هذا التعامل مع روايات الجمهور، تظل منهجا صائبا ما دام يأخذ بنظر الاعتبار أدوات الجمهور والخاصة. حيث يتعين عليه أن يرفض روايات العامة عند مناقشته " الخاصة "، مثلما يحق له أن يقدم الرواية الضعيفة حينما يحتج بها على المخالف في حالة كونها معتبرة لدى الأخير، وهذا ما نجده واضحا عندما يحتج - مثلا - على أبي حنيفة برواية مرسلة ما دام الأخير لا يمانع من العمل بها - كما صرح المؤلف بذلك في بعض احتجاجاته على الشخص المذكور.
بيد أننا لا نوافق المؤلف على احتجاجه بالرواية الضعيفة في حالة تضمنها ما هو مضاد لمبادئ الشرع من جانب، وما هو متناقض في الاستدلال بها من جانب آخر. وهذا ما يمكن ملاحظته بوضوح في ممارستين للمؤلف، تحدث في أولاهما عن الكلام متعمدا في الصلاة، وتحدث في أخراهما عن الكلام ممن ظن إتمامها، حيث رفض " في المسألة الأولى " رواية للجمهور تزعم - كما أشرنا - بأن النبي " ص " سلم في ركعتي الرباعية نسيانا، فيما لفت " ذو اليدين " نظر النبي " ص " إلى ذلك، وأنه " ص " قد استفسر عن صحة ما زعمه الشخص المذكور. المؤلف رد هذه الرواية بجملة وجوه، منها: إن الراوي أبا هريرة أسلم بعد وفاة الشخص المشار إليه بسنتين، ومنها - وهذا ما نعتزم التأكيد عليه -: إن الرواية تتضمن ما يتنافى مع عصمة النبي " ص " وهو النسيان.
أما " في المسألة الثانية " فإن المؤلف يقدم الرواية ذاتها للتدليل على جواز التكلم بالنسبة لمن ظن الإتمام. فبالرغم من أنه لم يعتد بهذه الرواية، حيث علق قائلا: (ورواية ذي اليدين - وإن لم تكن لنا حجة - فهي في معرض الإلزام) إلا أن سوقها هنا للتدليل على
كلمة المقدم 18
جواز التكلم بالنسبة لمن ظن الإتمام، ينطوي على جملة من الملاحظات، منها: استشهاده بها في حكمين مختلفين هما: النسيان والظن مع أنها لا تتضمن إلا حكما واحدا. وحتى مع صحة الفرضية الأولى لا يمكننا أن نعتمدها ما دام المؤلف نفسه قد رفضها بالنسبة إلى النسيان، فيما ينبغي أن يرفضها بالنسبة إلى الظن أيضا، ما دامت متعلقة بفعل واحد.
مضافا لما تقدم، فإن الرواية المذكورة ما دامت تتضمن ما هو يتنافى مع عصمة النبي " ص " حينئذ لم يكن هناك أي مسوغ للاستدلال بها ما دام المؤلف قد أخذ على نفسه ألا يعتمد - حتى في مجال الإلزام - ما لا يتسق مع الشرع بنحو ما قلناه مثلا: في رفضه لمعاييرهم المرتبطة بالقياس والاستحسان ونحو هما مما يرفضها حتى في حالة " الإلزام ".
وأيا كان، فإن المؤلف خارجا عن الملاحظة المذكورة، يظل - كما قلنا - متعاملا مع " روايات " الجمهور حسب ما يتطلبه منهج " المقارنة " من الاعتماد على " أدواتهم الاستدلالية " التي لا تتعارض مع أدلة " الخاصة " بالنحو الذي أوضحناه.
أما ما يتصل بأدوات الاستدلال الأخرى، فإن المؤلف يمارس نفس المنهج، وهذا مثل تعامله مع دليلي: " الإجماع " و " عمل الصحابة ". وهو ما يمكن ملاحظته في الممارسة التالية " بالنسبة إلى عدم جواز المسح على الخف، فيما عرض جملة أدلة الجمهور "، منها: (... وما روي عن الصحابة من إنكاره، ولم ينكر المنازع، فدل على أنه إجماع).
ومثل الممارسة التالية " بالنسبة إلى جواز التكلم في الصلاة ممن ظن إتمامها ": (. نقل عن جماعة من الصحابة أنهم تكلموا بعد السلام بظن الإتمام، ثم أتموا مع الذكر كالزبير وابنيه: عبد الله، وعروة، وصوبهم ابن عباس، ولم ينكر، فكان إجماعا).
ومثل الممارسة الآتية " مستدلا بها على طهارة ومطهرية الماء المطلق في حالة امتزاجه بما لا يمكن التحرز منه ": (... ولأن الصحابة كانوا يسافرون وغالب أوعيتهم الأدم، وهي تغير الماء غالبا).
وأما " عمل الصحابي " منفردا " بخلاف العمل الجماعي السابق بصفته كاشفا عن السيرة الشرعية بالنسبة لمقاييس الجمهور " فإن تعامل المؤلف مع هذا الجانب، يظل مماثلا لتعامله مع " الرواية " من حيث تقديمه دليلا معززا لوجهة نظره الشخصية، ثم رفضه للدليل
كلمة المقدم 19
المذكور نفسه في مرحلة رده على أدلة المخالفين تمشيا مع منهجه القائم على " إلزام " المخالف بالنحو الذي لحظناه في إلزامه الآخرين بالنسبة إلى الرواية الضعيفة التي يقدمها في مرحلة عرض الدليل الشخصي، ثم يرفضها في مرحلة الرد وهذا ما نلحظه - مثلا - في عرضه لأعمال كبار الصحابة بمثابة تعزيز لأدلته الخاصة، بينا يرفضها مطلقا في حالة احتجاجهم ذاهبا إلى أنها ليست " حجة " ما دامت غير مرتكنة إلى النبي " ص ".
وبعامة، فإن تعامل المؤلف مع أدوات الاستدلال لدى الجمهور " في مرحلة عرض الأدلة الشخصية "، يتمثل: إما في أداة مشتركة مثل: " الكتاب " أو " إجماع المسلمين " أو " العقل " أو " الأصل ". أو في أدواتهم المختصة بهم. وأما تعامله مع فقهاء الخاصة، فلا بد أن يتم - بطبيعة الحال - وفق أدواتهم الخاصة بهم أيضا ما داموا من جانب، أحد طرفي " المقارنة " وما دام المؤلف يمثل أحد فقهائهم من جانب آخر، مع ملاحظة أنه يستخدم نفس التعامل بالنسبة إلى عملية " الإلزام " أي: العمل بما هو ليس " حجة " لديه في صعيد التعزيز لوجهة نظره، أو صعيد " الرد على أدلة الآخرين بالنحو الذي نعرض له لاحقا عند حديثنا عن الجانب الآخر من ممارسته، وهو: " الاستدلال ".
3 فرضية النقض: المؤلف عندما يعرض أدلته الشخصية في المرحلة الثانية، يفترض أحيانا إمكانية " الإشكال " عليها من قيل الآخرين كما لو افترض أن النصوص التي استشهد بما مطعونة سندا، أو معارضة بنصوص أخرى أو أن أدلته بعامة غير صائبة مثلا. إلخ، حينئذ يتقدم المؤلف بالرد على الإشكال المتقدم. وهذا ما يمكن ملاحظته مثلا في النموذج الآتي، حيث قدم المؤلف أدلته الشخصية على عدم انفعال ماء البئر بالنجاسة، ومنه: الرواية القائلة (كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا " ع "، فقال: ماء البئر واسع لا يفسده شئ. إلخ) حيث عقب المؤلف على هذه الرواية قائلا: (واعترضوا على الحديث الأول بوجوه:
كلمة المقدم 20
* أحدها: أن قوله " ع ": لا يفسده. أي: فسادا يوجب التعطيل.
* الثاني: أن الراوي أسندها إلى المكاتبة، وهي ضعيفة.
* الثالث: المعارضة بخبر ابن بزيع - وهو الخبر القائل بأن ينزح من البئر دلاء، حيث تستشف منه نجاسة البئر.
والجواب عن الأول: أنه تخصيص لا يدل اللفظ عليه.
وعن الثاني: أن الراوي قال: فقال " ع " كذا، والثقة لا يخبر بالقول إلا مع القطع، على أن الرسول " ص " كان ينفذ رسله بالمكاتبات.
وعن الثالث: إنما يتم على تقدير نصوصية الحديث. وليس كذلك).
واضح من خلال هذه الممارسة أن المؤلف قد التزم بمتطلبات المقارنة الشاملة التي تفرض عليه أن يتوقع إشكالات الآخرين عليه فيما، يمكن ألا يقتنعوا بصواب دليله الشخصي.. فجاء مثل هذا العرض أو افتراض الإشكال عليه، يحمل مسوغه دون أدنى شك. كما جاء " الرد " على هذه الإشكالات محكوما بنفس المسوغ، طالما يستهدف من ذلك تثبيت وجهة نظره الخاصة، كما هو واضح.
ويلاحظ: أن عرض المؤلف لاعتراضات الآخرين، يأخذ أكثر من صياغة، فهو حينا يصوغ الإشكال بنحوه المتقدم، وحينا آخر يستخدم أسلوب " المقولات " أي: عبارة: " لا يقال " و " لأنا نقول ". وهذا من نحو ذهابه إلى عدم وجوب استيعاب الرجلين بالمسح، عبر ارتكانه إلى الدليل القرآني في آية الوضوء من عطف عبارة " الأرجل " على " الرؤس " حيث افترض هذا الإشكال: (لا يقال: فقد قرئ بالنصب، وذلك يقتضي العطف على المحل فلا يكون مبعضا.
لأنا نقول لا منافاة بينهما، لأن التبعيض لما ثبت بالجر، وجب تقديره في النصب، وإلا لتنافت القراءات. إلخ).
هذا إلى أن أسلوب " المقولات " يجئ أيضا في المراحل الأخرى من منهجه المقارن: عندما يعرض أدلة الآخرين والرد عليها، حيث تتطلب المناقشة أمثلة هذه الإشكالات والرد عليها، كما سنرى في حينه.
كلمة المقدم 21
ويلاحظ أيضا: أن هناك صياغة أخرى يستخدمها المؤلف في مرحلة " النقض " لأدلته، ألا وهي: تطوع المؤلف بإيراد الإشكال على دليله دون أن يفترضه من الآخرين، وهذا يتم - غالبا - عند تقديمه للأدلة الروائية: من حيث انطواؤها على اعتراضات في السند أو الدلالة حينا. ويمكن ملاحظة ذلك في ممارسات متنوعة من نحو تقديمه جملة من الروايات التي ساقها للتدليل على وجوب الموالاة في أفعال الوضوء، حيث استشهد برواية لأبي بصير، وعقب قائلا: (وفي طريقها سماعة وفيه قول).
واستشهد برواية أخرى وعقب عليها قائلا: (وفي طريقها معلى بن محمد، وهو ضعيف).
فالمؤلف في أمثله هذه الممارسات، يتطوع بإيراد الإشكال على أدلته، حيث ينسج حولها صمتا حينا، كما هو طابع النصوص المتقدمة التي لم يرد عليها. ولكنه يرد على ذلك حينا آخر، كما هو ملاحظ في تعقيبه على رواية ساقها للتدليل على أن الواجب في غسل الأعضاء - بالنسبة للوضوء - هو: المرة الواحدة، حيث أشار إلى أن في طريقها سهل بن زياد، وهو ضعيف. ولكنه يرد على هذا الإشكال بأن الرواية قد تأيدت بروايات صحيحة تحوم على نفس الموضوع.
لا شك، أن تقديم الرواية الضعيفة في سياق الروايات المعتبرة يعد نوعا من " التزكية " لها، إلا أن الملاحظ أن المؤلف نجده - بعض الأحيان - يورد الرواية الضعيفة في سياق خاص هو كونها " مقوية " لأدلته لا أنها " تستدل " بها وهذا ما نلحظه مثلا: في تعقيبه على رواية ضعيفة أوردها للتدليل على عدم نجاسة ما لا نفس له سائلة، حيث قال: (وهذه مقوية، لا حجة).
هنا ينبغي أن نشير إلى أن تقوية الاستدلال برواية ضعيفة لا يمكن الاقتناع به، لبداهة أن ما هو " ضعيف " لا قابلية له على " التقوية "، بل العكس هو الصحيح، أي: أن الرواية الضعيفة هي ما تتقوى بالروايات المعتبرة - كما لا حظنا ذلك في نص أسبق.
وأيا كان، يعنينا أن نشير إلى أن المؤلف في المرحلة الثالثة من منهجه المقارن يلتزم
كلمة المقدم 22
بموضوعية " المقارنة " حينما يتطوع بإيراد الإشكالات المتوقعة حيال أدلته الشخصية، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
4 أدلة المخالفين: بعد أن يعرض المؤلف دليله الشخصي والإشكالات الواردة عليه من قبل المؤلف نفسه، يتجه إلى عرض لأدلة المخالفة لو جهة نظره حيث يصدرها بعبارة: " احتج " فيما تومئ هذه العبارة إلى المستند الشرعي أو العقلي للأقوال التي عرضها المؤلف في المرحلة الأولى من منهجه المقارن، أي: الأقوال المخالفة لوجهة نظره - كما قلنا.
طبيعيا، يظل العرض لأدلة المخالفين مرتبطا بطبيعة المسألة المطروحة من حيث شمولها لكل من " العامة " و " الخاصة " فيما يفرد لكن منهما حقلا خاصا، ومن حيث تعدد الأقوال أو توحدها، حيث يحرص على عرضها جميعا ما أمكنه ذلك. فمثلا، عند عرضه لمسألة عدم رؤية الهلال، نقل جملة آراء: شهادة العدل الواحد شهادة العدلين، شهادتهما مع الصحو، شهادة عدد كبير مع العلة. إلخ، حيث حرص على عرض الأدلة لها بهذا النحو: * احتج سلار.
* واحتج الشافعي.
* واحتج أبو حنيفة.
* واحتج الشيخ..).
إلا أن الملاحظ أن المؤلف لا يعرض أحيانا للاحتجاجات كلها، بل نجد يكتفي بعرض واحد منها، وهذا من نحو عرضه للأقوال المختلفة بالنسبة إلى عدم تعيين " الحمد " أو تعينها في الثلاثة والرابعة من الفرائض حيث نقل قولا بوجوبها في كل الركعات، وقولا في معظم الصلاة، وقولا في ركعة واحدة. ولكنه اكتفى ب‌ " احتجاج " منها، هو: ما نقله الجمهور عن النبي " ص " بأنه كان يقرأ بالحمد في الركعتين الآخرتين، دون أن يعرض لأدلة القولين الآخرين. وهذا ما لا يلتئم مع حرصه الذي لحظناه بالنسبة إلى عرض الأدلة
كلمة المقدم 23
جميعا. ألا أننا نحتمل أن عدم وجود دليل يعتد به، أو عدم العثور عليه بسبب فقدان النصوص الاستدلالية للمخالف، يقف سببا وراء ذلك، وهذا ما يصرح به المؤلف أحيانا عندما يقرر بأنه لم يعثر على دليل لهذا الفقيه أو ذاك، بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن تقديمه لأدلة المخالفين لا ينحصر في عثوره على المصدر الاستدلالي للمخالف، بل يلتمس المؤلف أدلة تتناسب مع فتوى المخالف حيث إن كثيرا من الفقهاء لم يؤثر عنهم أي كتاب استدلالي، كما أن بعض أقوالهم تنقل عنهم بواسطة الآخرين، مما يجعل العثور على أدلتهم أمرا متعذرا، ومن ثم ينحصر عرض الدليل في محاولة المؤلف بأن يلتمس دليلا تخمينيا يمكن أن يشكل مستندا للأقوال المشار إليها.
وهذا كله فيما يتصل بطريقة العرض للأدلة المخالفة.
أما فيما يتصل بمستوياتها - من حيث الاختزال أو التفصيل، ومن حيث أدوات الاستدلال التي يعتمدها - فتظل مماثلة لمنهجه في عرض الأدلة الشخصية، حيث يخضع المسألة لمتطلبات السياق الذي ترد فيه ففي صعيد الإجمال أو التفصيل للأدلة نجده حينا يكتفي بتقديم الدليل عابرا، ونجده في ممارسات أخرى يفصل الحديث في ذلك، وهذا من نحو الممارسة التالية التي يعرض فيها أدلة القائلين بانفعال ماء البئر بالنجاسة: احتج القائلون بالتنجيس بوجوه: * الأول: النص، وهو ما رواه الشيخ في الصحيح.
* الثاني: عمل الأصحاب.
* الثالث: لو كان طاهرا لما ساغ التيمم، والتالي باطل فالمقدم مثله، والشرطية ظاهرة، فإن الشرط في جواز التيمم فقدان الطاهر، وبيان بطلان الثالي من وجهين: * الأول: ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن أبي يعفور وعنبسة بن مصعب عن أبي عبد الله " قال: " إذا أتيت البئر وأنت جنب فلم تجد دلوا ولا شيئا يغرف به فتيمم بالصعيد الطيب، فإن رب الماء رب الصعيد، ولا تقع على البئر ولا تفسد ماء هم ".
* الثاني: لو لم يحز التيمم لزم أحد الأمرين: إما جواز استعمال ماء البئر بغير نزح، أو:
كلمة المقدم 24
طرح الصلاة، وهما باطلان. أما الأول: فلأنه لو صح، ما وجب النزح وهو باطل بالأحاديث المتواترة الدالة على وجوبه. وأما الثاني: فبالإجماع.
* الرابع: إنه لو كان طاهرا لكان النزح عبثا، والمقدم كالتالي باطل).
فالملاحظ أن المؤلف فصل في عرضه لأدلة المخالفين، حيث قدم أولا أربعة أدلة رئيسة ومعززة، وفصل ثانيا في عرضة للدليل الثالث ففرع عليه فرعين، ثم فرع على الأخير منهما فرعين أيضا. ومثل هذا التفصيل في عرضه لأدلة المخالف فضلا عن كونه عملا جادا يكشف عن براعته في العرض، وفضلا عن كونه يتناسب مع أهمية المسألة المطروحة حيث إن السابقين على " العلامة " قد اشتهر القول لديهم بانفعال ماء البئر - وقد خالفهم في ذلك - مما يجعل لتفصيله المذكور مسوغا علميا دون أدنى شك. وفضلا عن ذلك كله، فإن المؤلف من خلال حرصه على تفصيل الأدلة، يكشف عن الحياد العلمي الذي تتطلبه المقارنة الشاملة، كما هو واضح.
5 الرد على أدلة المخالفين: بعد أن يعرض المؤلف لأدلة المخالف، حينئذ يتعين عليه " منهجيا " أن يتجه للرد عليها طالما يستهدف تثبيت وجهة نظره بطبيعة الحال، ومن الواضح، أن هذه المرحلة من مراحل منهجه المقارن، تظل مرتبطة بمستو يأت الأدلة التي يلتمسها للمخالف، فيجمل أو يفصل أو يبسط أو يعمق الرد حسب متطلبات السياق. إلا أنه بعامة يلقي - في هذه المرحلة بثقله العلمي بنحو ملحوظ بحيث تتضح أمام الملاحظ قابلية المؤلف في محاكمة أدلة الآخرين، ومن ثم يمكننا أن نستكشف غالبية الأدوات التي يعتمدها في ممارسته الفقهية، بحيث يمكن القول بأن الطابع العلمي يتبدى من خلال هذه المرحلة من منهجه المقارن.
ويمكننا - على سبيل المثال أن نقدم نموذجا للرد المفصل لدى المؤلف، حيث لحظنا في المرحلة السابقة " مرحلة عرض أدلة المخالفين " أنه فصل الكلام في عرضه لأدلة القائلين بانفعال ماء البئر. وها هو يسلك نفس التفصيل في الرد على ذلك ما دام الموقف يتطلب تجانسا بين أدلة المخالف المفصلة وبين الرد عليها بنفس التفصيل.
كلمة المقدم 25
يقول المؤلف - وقد قدم أدلة المخالف في أربع نقاط مع تفريعاتها -: (والجواب عما احتجوا: أولا، من وجوه: * أحدها: إنه " ع " لم يحكم بالنجاسة " أي: قوله " ع ": ينزح منها دلاء " أقصى ما في الباب أنه أوجب النزح.
* وثانيها: إنه لم يجوز أن يكون قوله: " ينزح منها دلاء " المراد من الطهارة ها هنا: النظافة؟!.
* ثالثها: يحمل على ما لو تغيرت، جمعا بين الأدلة.
* رابعا: هذه دلالة مفهوم وهي ضعيفة خصوصا مع معارضتها للمنطوق.
* وخامسها: يحمل المطهر هنا على ما أذن في استعماله، وذلك إنما يكون بعد النزح لمشاركته للنجس في المنع جمعا بين الأدلة. وهذه الأجوبة آتية في الحديث الثاني " أي: قوله " ع " يجزيك أن تنزح دلاء ".
وعن الثاني بأن عمل الأكثر ليس بحجة، وأيضا: فكيف يدعي عمل الأكثر هنا مع أن الشيخ وابن أبي عقيل ذهبا إلى ما نقلناه - أي: مخالفتهما -.
وعن الثالث: بالمنع من الملازمة " أي: احتجاجهم القائل: لو كان طاهرا لما ساغ التيمم، والتالي باطل، فالمقدم مثله ": أولا: قوله: الشرط فقدان الطاهر، قلنا: ليس على الإطلاق، بل المأذون في استعماله، فإن المستعمل في إزالة الحدث الأكبر طاهر عند أكثر أصحابنا يجب معه التيمم، فكذا هنا.
وثانيا: بالمنع من بطلان التالي. والحديث الذي ذكروه " وهو قوله " ع " فيتمم بالصعيد الطيب. ولا تقع على البئر ولا تفسد. إلخ غير دال على التنجيس، فإنه يحتمل رجوع النهي إلى التنجيس للمصلحة الحاصلة من فقدان الضرر بالوقوع، والنهي عن إفساد الماء إما على معنى عدم الانتفاع به إلا بعد النزح.).
لقد استشهدنا بهذا النص المطول ليتبين القارئ مدى اتسام هذا الرد بالتفصيل
كلمة المقدم 26
والعمق والشمول، فيما رد على الدليل الأول " وهو الروايتان القاضيتان بالنزح " حيث علل المخالف ذلك بقوله (لو كانت طاهرة لكان تعليل التطهير بالنزح تعليلا لحكم سابق بعلة لاحقة رده على ذلك بخمسة وجوه اعتمد فيها على ذائقته الفقهية المتميزة من جانب مثل عدم الملازمة بين النزح والنجاسة ومثل إمكان حمل ذلك على النظافة وليس الطهارة التي تقابلها النجاسة، ومثل تفسيره لعبارة " الإفساد لماء البئر بمعنى: عدم الانتفاع به، وليس نجاسته. إلخ " مضافا - من جانب آخر إلى محاولة تأليفه بين الروايات المتضاربة، حيث أن عبارات من نحو: (ماء البئر واسع لا يفسده شئ إلا أن يتغير) و (لا بأس) جوابا لمن سأله " ع " عن وقوع بعض النجاسات في البئر، و (لا تعاد الصلاة ما وقع في البئر إلا أن ينتن) أمثلة هذه العبارات (نص) في عدم انفعال ماء البئر بالنجاسة، لذلك، فإن حمله الروايات الآمرة بالنزح على " التغير " وجمع بين الأدلة يكون بذلك قد استخدم ذائقته الفقهية في تفسير النص أو تأويله " أي: الجمع " بالنحو المطلوب هذا فضالا عن اعتماد المؤلف بعض الأدلة العقلية، في " الملازمات " التي نقضها. وفضلا عن اعتماده العنصر الاستقرائي في التماس أحكام أو أقوال " مماثلة " للمسألة المبحوث عنها، مثل استشهاده بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر. إلخ، حيث تكشف هذه المستويات من " الرد " عن مدى الجدية ومدى الحرص على تفصيل الممارسة التي ينتهجها في هذا الميدان.
طبيعيا، من الممكن أن تثار بعض الملاحظات على الرد المذكور للمؤلف، ومنها مثلا ذهابه إلى أن عمل الأكثر ليس بحجة " وهو موقف صائب دون أدنى شك، بدليل، أنه خالف المشهور في انفعال ماء البئر، مع ملاحظة أن المؤلف يعمل بالمشهور في غالبية ممارساته - كما سنرى لاحقا إلا أن رده على المخالف بعبارة (فيكف يدعي عمل الأكثر هنا مع أن الشيخ وابن أبي عقيل ذهبا إلى ما نقلناه). هذا الرد لا يمكن التسليم به من حيث نفيه صفة " الشهرة " لمجرد مخالفة فقيهين، لوضوح أن مخالفة الواحد أو الاثنين لا تقدح في تحقق الشهرة، وإلا كان القول " إجماعا " وليس " شهرة " كما هو بين ولا أدل على ذلك أن المؤلف قد صدر ممارسته لهذه المسألة بعبارة: (المشهور عند أصحابنا: تنجس البئر بملاقاة النجاسة.) حيث أقر بتحقق " الشهرة " في هذا القول، وحينئذ، كيف ينفيه " في رده
كلمة المقدم 27
المذكور على المخالف؟ " وبالرغم من أن المؤلف كان في صدد الرد على " الشهرة الفتوائية " مقابل " الشهرة العملية " بدليل أن المخالف - حسب ما نقله المؤلف على لسانه - قد احتج بالقول: (عمل أكثر الأصحاب، وهو وإن لم يكن حجة. فإذا انضم إلى ما ذكرناه من الأحاديث حصل القطع بالحكم) إلا أنه في الحالين - سواء أكانت " الشهرة: فتوائية أو عملية " فإن مخالفة الواحد أو الاثنين لا تزيلها، كما قلنا.
وبعض النظر عن ذلك. فإن المؤلف " في ردوده بصورة عامة يظل كما أشرنا - متوفرا على الممارسة الجدية، العميقة، المستوعبة لكل متطلبات الرد المفصل، بالنحو الذي لحظناه. أما من حيث أدوات " المقارنة " التي يستخدمها المؤلف في مرحلة رده على أدلة المخالفين، فإن الخطوط التي لحظناها في " مرحلة عرض أدلتهم " تأخذ المنحى ذاته: من حيث اعتماده أدوات طرفي المقارنة " الخاصة " و " العامة "، مضافا إلى الأدوات المشتركة بينهما بطبيعة الحال، مع ملاحظة جانبين هما: * رفضه لأدوات " الجمهور " في أكثر من مجال، منها: الرد على الرواية الضعيفة " حيث لا يرفضها - كما لحظنا - عند مرحلة عرض أدلته الخاصة " ومنها " الرد على أدلتهم المنهي عنها " كالقياس والاستحسان ونحو هما ".
* اعتماده - في كثير من الحالات - على الأدلة " الخاصة " في تعامله مع الجمهور، سواء أكان ذلك في صعيد " الجمع " بين أدلة الطرفين أو الترجيح لأدلة الخاصة.
ويحسن بنا أن نستشهد بنماذج من ممارساته في صعيد تعامله مع الجمهور أولا، فيما نبدأ ذلك بتعامله مع أدلتهم النقلية، وفي مقدمتها: الرواية، حيث يخضعها لجملة من الاعتبارات، منها: 1 التعامل مع الرواية، من خلال " تجريحها " سندا، حيث يعتمد في ذلك على معايير الجمهور نفسه، ففي رده على رواية " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا " فيما استدل بها الشافي على اعتصام الماء الكثير علق قائلا: (إن الحنفية قد طعنوا فيه. فلو كان صحيحا لعرفه مالك).
ورد الأحاديث الذاهبة إلى أن المسح هو: إلى المرفقين فس التيمم، بقوله:
كلمة المقدم 28
(والجواب عن أحاديث أبي حنيفة بضعفها فإن أكثر العلماء أنكرها ولم يرو منها أصحاب السنن وقال أحمد: ليس بصحيح عن النبي " ص " إنما هو عن ابن عمر، وقال الخطائي: يرويه محمد بن ثابت، وهو ضعيف).
فالملاحظ هنا، أن المؤلف قد اعتمد مقاييس الجمهور في تجريح هذه الروايات، من خلال علماء الحديث، أو أصحاب السنن، أو رواد المذاهب أنفسهم من حيث إنكار بعضهم لمبادئ البعض الآخر، حيث يعد مثل هذا المنحى من الرد أسلوبا بارعا في " الإلزام "، كما هو واضح.
بيد أنه إذا كان المؤلف يعتمد مقاييس الجمهور في تقويم الرواية من أجل " إلزامهم " بمقاييسهم ذاتهم، فهذا لا يعني أنه يتقبل ذلك بنحو مطلق حتى لو كان ذلك على حساب مبادئه الخاصة مثلا. بل إن " الموضوعية " و " الحياد العلمي " الذي تفرضه " المقارنة " من جانب، وخطأ بعض المقاييس التي يصدر عنها الجمهور من جانب آخر، يفرضان على المؤلف ألا يتقبل المعيار المخطئ لديهم. لذلك نجده يرد مثلا على الحنابلة الذين طعنوا في حديث - ورد عن طريق الجمهور - للإمام " ع " فيما قدمه المؤلف دليلا لوجهة نظره بالنسبة إلى التخيير في الأخرتين بين التسبيح والحمد. يرد على الطعن المذكور، بقوله: (وطعن الحنابلة - في حديث علي " ع " بأن الرواية هي للحارث بن الأعور، وقد قال الشعبي: إنه كان كذابا - باطل، لأن المشهور من حال الحارث: الصلاح وملازمته لعلي " ع ". وأما الشعبي، فالمعلوم منه: الانحراف عنه " ع ": وملازمته لبني أمية، ومباحثته لهم، حتى عد في شيعتهم).
إن أمثلة هذا الرد تتناسب مع موضوعية المنهج المقارن الذي يفرض على المؤلف ألا يتقبل المعايير المخطئة للجمهور، بخاصة أن المؤلف استند إلى عنصري: " السيرة والتأريخ " في تدليله على فساد الطاعن وصلاح المطعون. ومنها: 2 التعامل مع الرواية من خلال السمة الذهنية للراوي من حيث إمكان " توهمه " في عملية النقل. وهذا من نحو رواية أبي هريرة عن النبي " ص " القائلة: " جعل المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثا: فريضة " حيث عقب المؤلف عليها قائلا:
كلمة المقدم 29
(إنه حكاية قول أبي هريرة فلعله " توهم " ما ليس بفرض فرضا).
ومما يكسب أمثلة هذا الرد قيمة علمية، أن المؤلف - في حالات كثيرة - لا يقف عند مجرد إمكان " التوهم "، بل نجده يستدل على ذلك. وهذا من نحو رده على الاتجاه الذاهب إلى وجوب إرغام الأنف في السجود حيث احتج المخالف برواية لابن عباس عن النبي " ص ": (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم وأشار بيده إلى الأنف) فيما عقب المؤلف أولا على ذلك بقوله: (فلعل الراوي رأى محاذاة يديه لأول الجبهة، فتوهم الأنف).
بعد ذلك، استدل المؤلف على " توهمه المذكور برواية أخرى للراوي نفسه، عد الأنف منها، فعقب عليها بقوله: (وقوله " ع " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، ثم عد الأنف، دليل على أنه غير مراد بأمر الوجوب، وإلا لكان المأمور ثمانية).
إن أمثلة هذا الاستدلال يظل من المتانة والقوة بمكان كبير، حيث أثبت إمكان " التوهم " من الراوي بما لا مجال للشك فيه، وهو أمر يدعو إلى إكبار المؤلف في أمثلة هذه الردود. ومنها: 3 التعامل منع الرواية من خلال معارضتها من قبل الراوي نفسه أي: معارضة روايته برواية أخرى للراوي ذاته. وهذا من نحو رواية أبي هريرة التي احتج بها المخالف بالنسبة إلى وضع اليدين قبل الركبتين في الهوي إلى السجود: (إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه) حيث عقب المؤلف على هذه الرواية: (ورواية أبي هريرة معارضة بالرواية التي نقلناها عنه، وذلك مما يوجب تطرق التهمة إليه) ويقصد بها رواية احتج بها المؤلف لوجهة نظره الذاهبة إلى وضع اليدين قبل الركبتين في الهوي إلى السجود، والرواية هي: (إذا سجد أحد كم فليضع يديه قبل ركبته ولا يبرك بروك البعير). بيد أن مثل هذا الرد يظل عرضة للإشكال من جانبين، أحدهما: سقوط الروايتين كلتيهما، حيث يفترض في مثل هذه الحالة إما أن يصحح المؤلف إحدى الروايتين أو يرجع إلى ثالثة أو إلى الأصول العملية ونحوها: عند تعارضهما. الجانب الآخر: أن قول المؤلف بأن معارضة
كلمة المقدم 30
الرواية الأولى بالثانية توجب " تطرق التهمة " تنعكس عليه أيضا، لأن الرواية الأولى ساقها للتدليل على صحة وجهة نظره، فإذا أسقط الروايتين، يكون قد أسقط دليله أيضا، وهذا ما يجعل الرد المذكور غير محكوم بصواب ممارسته. وهذا على العكس مثلا من ممارسة أخرى، صحح فيها المؤلف إحدى الروايتين المتعارضتين عند رده على دليل خصمه فيما استند - بالنسبة إلى زعمه بعدم وجوب سورة الحمد - إلى قوله " ص " (ثم اقرأ ما تيسر من القرآن.) حيث رد المؤلف على ذلك بأن الرواية المذكورة رويت بصيغة أخرى هي: (ثم اقرأ بأم القرآن). وهذا ما يكسب الرد المشار إليه، قيمة علمية: ما دام المؤلف قد اضطلع بتصحيح إحدى الروايتين وهي: الرواية التي اعتمدها دليلا لوجهة نظره، كما هو واضح. ومنها: 4 التعامل مع الرواية من خلال معارضتها مطلقا، أي: معارضتها بروايات أخرى. وهذا النمط يتماثل مع سابقه - من حيث مستويات الرد التي تتجه إلى إسقاطهما أو تصحيح إحداهما. إلخ ففي مجال التصحيح مثلا نجد المؤلف يرد على احتجاج المخالف الذاهب إلى أن التكبير في الأذان مرتان لا أربع، واستناده إلى رواية تقول بأن أحد المؤذنين في زمن الرسول " ص " كان يجعل التكبير مرتين، حيث رده المؤلف: (إنه معارض بحديث بلال - وكان المؤلف قدمه لدعم أدلته الشخصية - فيما تقول الرواية بأن الرسول " ص " علمه التكبير بأربع مرات والأخذ به أولى، أنه كان أكثر ملازمة لرسول الله " ص ") وأهمية مثل هذا الرد تتمثل في تصحيح الرواية المعارضة من خلال كون المؤذن أكثر ملازمة للنبي " ص " وهذا مرجح لها، أو أسقاط للرواية المعارضة لها. فيما يكشف مثل هذا التصحيح عن براعة فائقة في الممارسة الفقهية دون أدنى شك. ومنها: 5 التعامل مع الرواية من خلال تذوق دلالتها، أي: استشفاف المخالف دلالة مغايرة لظهورها وهذا ما يمكن ملاحظته في رد المؤلف على الجمهور في ذهاب الأخير إلى عدم ناقضية النوم للوضوء، إلا في حالات خاصة، مستندين في ذلك إلى رواية تقول: (الوضوء على من نام مضطجعا، فإنه إذا اضطجع استراحت مفاصله) ورواية أخرى جاء فيها: (بينا أنا جالس في صلاتي إذ رقدت، وإذا النبي " ص " فقلت: يا رسول الله، على من هذا
كلمة المقدم 31
وضوء؟، فقال: لا، حتى تضع جنبيك). وقد عقب المؤلف على هاتين الروايتين، بقوله على الأولى (إنه نص على الاضطجاع ونص على العلة التي هي الاسترخاء، وذلك يقتضي تعمم الحكم في جميع موارد العلة). وقال عن الرواية الأخرى: (يجوز أن يكون غير مستغرق بحيث يغيب عن مشاعره الإحساس).
فالمؤلف هنا يرد تينك الروايتين من خلال تفسير هما بما لا يتنافى وأدلته الشخصية، أو لنقل: يفسر هما في ضوء النقض للدلالة التي أخطأ المستدل المخالف في استخلاص الحكم منها. بيد أن المهم هو: براعته في استخلاص الدلالتين اللتين لحظنا هما حيث استخلص في أولاهما " مناطا " يتعمم حكمه على جميع الموارد بما فيها المورد الذي استهدف المخالف نفيه. كما استخلص في أخراهما: احتمالا هو عدم تحقق " المناط " المشار إليه، حيث إن عدم الاستغراق في النوم هو أحد مصاديقه، كما هو واضح.
التعامل مع الأدلة الأخرى: الإجماع: يتعامل المؤلف مع " الجمهور " بالنسبة إلى الإجماع - بنحو يماثل التعامل مع الدليل الروائي من حيث اعتماده " إجماع الجمهور "، إلا أنه يضيف إلى ذلك " إجماع المسلمين " - بنحو ما لحظناه في " مرحلة الأدلة الشخصية " - كما أنه يضيف إلى ذلك " إجماع الخاصة " وفي مقدمته " إجماع أهل البيت عليهم السلام "، حيث إن طبيعة هذه المرحلة " مرحلة الرد على دليل المخالف تفرض عليه من جانب: أن يرد إجماعاتهم بما يضادها من أدلتهم، وبما ينافيها من " إجماع الخاصة من جانب آخر.
ويمكن ملاحظة هذه المستويات من الرد، متمثلة في رده - على سبيل المثال - على الاتجاهات الذاهبة إلى غسل الوجه ما بين العذار والأذن، حيث احتج المخالفون على ذلك ب‌ " الإجماع ". ردهم بقوله: (الجواب. بالمنع من الإجماع مع وقوع الخلاف، وكيف يتحقق ذلك وأهل البيت
كلمة المقدم 32
عليهم السلام رووا هذا القول - ويقصد به: ما دارت عليه الإبهام والوسطى - ومالك ويوسف والزهري وغيرهم؟).
ومن نحو رده على الاتجاه الذاهب إلى أن مسح الرأس في الوضوء: أن يكون بجميعه، رد ذلك قائلا: (. إن أهل البيت أجمعوا على رده).
ومن نحو رده على أحد الاتجاهات الذاهبة إلى أن " المسافة " ليست شرطا في " قصر " الصلاة، رد ذلك قائلا: (. إنه مناف للإجماع، إذ قد ثبت عن الصحابة والتابعين: التحديد).
فالملاحظ في هذه الممارسات الثلاث، أن المؤلف توكأ على " إجماع العامة " في رده على قول شاذ " عدم شرط المسافة " عبر استناده إلى إجماع الصحابة والتابعين. حيث إن مخالفة فقيه من " العامة " لفقهائهم الآخرين، يفرض عليه أن " يلزمه " من خلال أدلتهم، كما هو واضح. وأما رده على الاتجاه الذاهب إلى تحديد الغسل ما بين العذار والأذن. فبما أن هذا الاتجاه ادعى " الإجماع " على ذلك، حينئذ نقض الادعاء المذكور بوجود المخالف من " الخاصة " و " العامة ": حيث إن إشارته إلى خلاف " الخاصة " - مضافا إلى خلاف " العامة " أشد إلزاما.
وأما رده على الاتجاه الذاهب إلى مسح جميع الرأس، فبما أن " العامة " منشطرون إلى أكثر من اتجاه خلافا للخاصة فيما " أجمعوا " على تبعيض ذلك، حينئذ يكون " الاستدلال " بإجماع " الخاصة " وحدهم له مسوغه العلمي، كما هو واضح.
الشهرة الروائية والعملية والفتوائية: تظل هذه الأدوات: من جملة الأدوات المشتركة التي يعتمدها المؤلف في رده على أدلة " الجمهور " بصفتها أدوات تعامل مع " الخاصة " أيضا كما سنرى ذلك لاحقا. لذلك، نجده غير مقتصر على تقديم أدلة طرف دون آخر، بل " يزاوج " بينهما في أكثر من ممارسة.
وهذا من نحو الممارسة التالية التي يرد فيها على روايتين قد أوردهما " الجمهور " بأن
كلمة المقدم 33
النبي " ص " كان - في رفع اليدين - يقتصر على تكبيرة الافتتاح. حيث رد ذلك، قائلا: (والجواب عن الحديثين: أنهما معارضان للأحاديث المتقدمة - ويقصد بها: الأحاديث التي عرضها المؤلف " للخاصة والعامة " بالنسبة لاستحباب رفع اليدين عند الركوع - مع " كثرة رواياتها. وعمل الصحابة بما قلناه، وعمل أهل البيت عليهم السلام، مع أنه: الحجة، وهم أعرف بمظان الأمور الشرعية).
فالملاحظ هنا، أنه قد اعتمد " الشهرة الروائية " أولا: حينما أشار إلى كثرة الروايات الذاهبة إلى رفع اليدين. كما اعتمد - ثانيا الشهرتين " العملية " و " الفتوائية ": في حالة ما إذا كان عمل الصحابة مستندا إلى رواياتهم التي ذكرها، أو مطلقا. واعتمد - ثالثا - عمل أهل البيت عليهم السلام حيث رجح هذا الجانب على سواه.
وأهمية مثل هذا الرد تتمثل في: كون المؤلف قد اعتمد أدوات طرفي " المقارنة " فيما أكسب ممارسته أهمية كبيرة، بيد أن الأهم من ذلك أنه أكسب عمل أهل البيت عليهم السلام قيمة خاصة تترجح على سواها بصفة أنهم أعرف بمظان الأمور الشرعية. وهذا يعني أن المؤلف - في أمثلة هذه الممارسة - قد التزم بما تفرضه " منهجية المقارنة " من جانب، مضافا إلى ضرورة العمل بما يعتقده " حجة " بينه وبين الله تعالى في ذهابه إلى أن أهل البيت عليهم السلام هم الأعرف بمظان الأمور الشرعية.
عمل الصحابي: لحظنا بعض الممارسات المرتبطة بعمل الصحابة في مرحلة عرض الأدلة الشخصية وغيرها، هنا " في مرحلة الرد على أدلتهم، يمارس نفس المنحى من حيث تقبله لهذا الدليل " في حالة كونه كاشفا عن سيرة " شرعية " لدى الجمهور، كما هو الأمر بالنسبة إلى ما لحظناه - قبل قليل - عن سيرتهم في " رفع اليدين " و " تحديد المسافة " حيث توكأ على سيرة الصحابة في " رده " على أدلتهم المخالفة لو جهة نظره والأمر كذلك، بالنسبة إلى قول أو عمل الصحابي " في حالة كونه مستقلا " حيث يرد على مخالفيه قول أو فعل الصحابي، من خلال إشارته إلى كونه معارضا بصحابي آخر، أو
كلمة المقدم 34
خرقه لإجماعهم أو إسقاطه أساسا، من حيث كونه غير حجة ما لم يستند إلى الرسول " ص ". وهذا ما نلحظه - مثلا - في ممارسته التي يرد بها على من ذهب إلى أن " عمر " هم أن يعاقب أحد الأشخاص المفطرين ممن انفرد برؤية الهلال، حيث علق المؤلف قائلا: (إنه - أي: سلوك الصحابي المذكور - مستند إلى " صحابي " فلا يكون حجة ما لم يسنده إلى الرسول صلى الله عليه وآله.).
الأدلة المنهي عنها: ونقصد بها: أدوات " القياس " و " الاستحسان " والرأي ونحوها وحيث أن المؤلف لا يعتمد أمثلة هذه الأدلة المنهي عنها، فيما يفرض عليه ذلك، أن " يرد " عليها بطبيعة الحال.. وهذا ما يمكن ملاحظته - على سبيل الاستشهاد - في " رده " على من ذهب إلى جواز انعقاد الصلاة بغير الصيغة المنحصرة بعبارة " الله أكبر " حيث ذهب المخالف إلى أنه يتم بأية عبارة تتضمن ذكر الله تعالى وتعظيمه، مشابهة للتكبير. حيث رده المؤلف قائلا: (والجواب. أنه " قياس " في مقابل النص، فالا يكون مقولا.
والملاحظ أن المؤلف - في كثير من ممارساته - لا يكتفي بمجرد الإشارة إلى معارضة هذا القياس أو ذلك للنص، بل نجده يوضح عقم هذا القياس أو ذلك: إما من خلال توضيحه الفارق بين الأصل والفرع، أو بتقديم معارض له في القياس ذاته. فالمخالف الذي سبق أن رده المؤلف قد احتج بقياس آخر على المسألة المتقدمة بأن ذلك يقاس على الخطبة التي لا صيغة محددة لها، حيث رده المؤلف قائلا: (والفرق بينه وبين الخطبة ظاهر، إذا لم يرد عن النبي " ص " فيها لفظ معين).
وأما رد القياس بما هو معرض له فيمكن ملاحظته في رده على من ذهب إلى عدم جواز أن " يصاف " الصبي الإمام في صلاة الجماعة قياسا على المرأة، حيث قال: (القياس منقوض بالنوافل، وبالأمي مع القارئ، وبالفاسق مع العدل).
وأما ردوده على " الاستحسان " وسواه من أدوات " الرأي " المنهي عنها، فيمكن
كلمة المقدم 35
ملاحظتها في ردوده على بعض المخالفين ممن ذهب إلى تقدير الماء الكثير بالقلتين، أو بعدم وصول النحاسة إليه، أو تقديره بعشرة أذرع.. إلخ، حيث رد القولين الأخيرين " حركة الماء والتقدير بالأذرع " قائلا: (والقول بمذهب أبي حنيفة باطل " أي: الحركة " لأنه تقدير غير شرعي، ولأنه مجهول، فإن الحركة قابلة للشدة والضعف. والتقدير بعشرة أذرع مجرد استحسان من غير دليل).
إن أمثلة هذا الرد تتسم بأهمية كبيرة. فبالرغم من رده أدوات: استدلال المخالف " من حيث عدم مشروعيتها " إلا أنه يتعامل - من جانب آخر - مع هذه الأدوات: إما بإبراز فسادها، مثل: القياس قبال النص، أو الاستحسان من غير دليل حيث جاء في أحد تعريفاته مثلا أنه دليل ينقدح في الذهن. وإما بنقضه بنفس الأدلة مثل القياس المعارض بمثله، بالنحو الذي لحظناه في الممارسات المتقدمة.
وهذا كله فيما يتصل بأدوات " رده " على الجمهور.
أما ما يتصل بتعامله مع الخاصة فسنعرض له عند حديثنا عن السمة الاستدلالية في ممارساته.
والآن: بعد ملاحظتنا هذه المرحلة من منهجه المقارن. نتقدم إلى المرحلة الأخيرة، وهي: 6 فرضية النقض أو الإشكال على ردوده: هذه هي المرحلة أو الخطوة الأخيرة من الخطوات التي ينتهجها المؤلف في منهجه المقارن.
لقد كانت المرحلة السابقة تتمثل في: ردوده على المخالفين، أما الخطوة الأخيرة فتتمثل في: فرضية الإشكال من قبل مخالفيه، حيث يتوقع المؤلف أن يرد مخالفوه على ردوده التي تحدثنا عنها في المرحلة الخامسة من منهجه المقارن. لذلك، فإن المرحلة السادسة التي نعرض لها الآن تكاد تماثل المرحلة الثالثة التي وقفنا عند مستوياتها المتمثلة في: فرضية الرد على أدلته الشخصية. أما هنا فإن " الرد " يتم من خلال ردوده على الآخرين، وليس من
كلمة المقدم 36
خلال عرض أدلته الشخصية. وتبعا لهذا، نجد أن هذه الخطوة تتميز عن سابقتها بتنوع الإشكال وتضخمه، وأيضا بتنوع رده على الإشكالات المشار إليها.
ومن الواضح، أن هذه الخطوة تعد في قمة الأهمية بالنسبة لمتطلبات المنهج المقارن، نظرا لإمكانية أن تثار على ردوده إشكالات أخر: ما دام طرفا المقارنة يمكنهما أن يقدما الإجابة علي رد كل واحد الآخر. وبمقدورنا أن نستشهد ببعض النماذج في هذا الصعيد.. منها: رده على القول الذاهب بعدم انفعال الماء بالنجاسة في حالة بلوغه قلتين، أو القول المستند إلى ما هو غير شرعي، بالنسبة إلى تقديره، حيث ردهم بالطعن في السند في موضوع القلتين، وردهم بعدم استناد تقديرهم إلى الشرع بل مجرد الاستحسان ونحوه " كما لحظنا في المرحلة السابقة ". وهنا، نجد أن المؤلف يورد " إشكالا " على رده المذكور، حيث افترض ما يلي: (لا يقال: ينتقض ما ذكرتموه بما رواه الشيخ عن عبد الله بن المغيرة عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله " ع " قال: إذا كان الماء قدر قلتين لم ينجسه شئ. وبما رواه في الصحيح عن صفوان، قال: سألت أبا عبد الله " ع " عن الحياض التي من مكة إلى المدينة، تردها السباع.
فقال " ع ": وكم قدر الماء؟ قلت: إلى نصف الساق إلى الركبة، قال " ع ": توضأ).
لأنا نجيب عن الأول بأنه مرسل، ولأنه مناف لعمل الأصحاب، ولأنه ورد للتقية.
وعن الثاني بأنه مناف لإجماع المسلمين، لأن القائل بالتقدير لم يقدره بذلك).
فالمؤلف هنا قد أوفى " المقارنة " حقها، وسلك المنحى الموضوعي في ذلك، حينما وجد أن في نصوص " الخاصة " ما يتوافق مع أقوال " العامة "، لذلك لم ينسج صمتا حيال هذه الروايات، بل رد الأولى منهما بضعف السند، ومنافاتها لعمل الأصحاب، وورودها تقية. ورد الأخرى بمخالفتها لإجماع المسلمين.
وإذا كانت هذه الممارسة تعرض " الإشكال " وترده، من خلال إقراره فعلا بوجود نصوص مماثلة لأدلة المخالف، فإنه - في مستوى آخر من الممارسة - لا يقر ب‌ " النقض " إلا من
كلمة المقدم 37
خلال ما هو " افتراض " فحسب، حيث نجده يرد على " الفرضية " المذكورة بأسلوب آخر من الرد. وهذا ما نلحظه متمثلا في أسلوب هو: استخدامه عبارة " سلمنا " حيث تتناسب هذه العبارة مع طبيعة " الفرضية " التي لم يقتنع بها، بخلاف أسلوبه الأول الذي يعتمد " المقولات " أي: عبارة " لا يقال " و " لأنا نقول " حيث تتناسب العبارة الأخيرة مع طبيعة الإشكال الذي يقتنع بمشروعيته فيما لحظناه قد أقر بوجود روايات للخاصة تماثل روايات العامة.
والمهم يمكننا ملاحظة الأسلوب الآخر الذي يعتمد مجرد " التسليم " بالإشكال دون أن يقتنع به، متمثلا في رده على من ذهب إلى أن الواجب من الغسل هو: ذلك البدن بواسطة اليد، ولا يكفي مجرد الصب، مستندا في ذلك إلى هذه المقولة: (ولأنه فعل، والفعل لا يتحقق إلا بالدلك) حيث أجابه قائلا: (قوله: هو فعل، قلنا: مسلم، لكنه غير مقصود لذاته، بل المقصود: الطهارة، وقد حصلت. سلمنا، لكن تمكين البدن وتقريبه إليه: فعل، فخرج به عن العهدة بدون الدلك).
فالملاحظ هنا، أن المؤلف قد اعتمد عنصر " التسليم " على نحو " الفرضية " في عبارة " سلمنا "، ثم رد بأن تمكين البدن " فعل " أيضا، بالنحو الذي لحظناه. وأهمية مثل هذا الأسلوب تتمثل في شمولية الممارسة لكل الاحتمالات التي يمكن أن يتقدم بها المخالف، حتى تصبح " المقارنة " مستكملة لشروطها جميعا، وهذا ما توفر عليه المؤلف حقا، كما لحظنا.
* * * ما تقدم، يجسد منهج المؤلف في ممارسته ل‌ " عنصر المقارنة " التي طبعت كتاب " المنتهى "، أما العنصر الآخر الذي قلنا بأنه يطبع كتابه المذكور: فهو:
كلمة المقدم 38
[4] (عنصر الاستدلال) " المقارنة " قد تتم - كما أشرنا - في صعيد عرض الأقوال كما هو طابع الكثير من المؤلفات. وقد تتم في صعيد الممارسة الفكرية " الاستدلال "، كما هو طابع كتاب " المنتهى " وهذا العنصر الأخير، قد يتم عابرا، أو مختزلا وقد يتم بنحوه المفصل الشامل، فيما يطبع كتاب " المنتهي " أيضا. لكن ما يعنينا هو: أن نعرض لمنهج المؤلف في الاستدلال، من حيث تعامله مع " الأدلة " التي يعتمدها " والأدوات " التي تواكبها طبيعيا، إن هذه الصفحات لا تسمح لنا تسمح لنا بالتناول المفصل لمنهج المؤلف، بقدر ما يحسن بنا أن نعرض سريعا لطبيعة تعامله مع الأدلة وأداوتها.
سلفا، ينبغي أن نشير إلى أن المؤلف قد توفر على " الممارسة الاستدلالية " بكل متطلباتها من حيث تعامله مع الأدلة الرئيسة من الكتاب والسنة أو الكاشفة عنها من شهرة أو سيرة شرعية أو عقلائية، فضلا عن دليلي الإجماع والعقل، وفضلا عن الأدلة الثانوية من أصل عملي ونحوه بما يواكب ذلك من " الأدوات " التي يتم التعامل من خلالها مع الأدلة المذكورة، وهي: أدوات التعامل اللغوي والعرفي " الظواهر اللفظية " من عموم وإطلاق وخصوص وتقييد. إلخ، مضافا - بطبيعة الحال - إلى أدوات التعامل مع " السند ".
المؤلف - كما قلنا - يتعامل مع الأدلة المذكورة وأدواتها بكل ما يتطلبه البحث من سعة وعمق وجدية. ولعل وقوفنا على منهجه المقارن يكشف عن الطابع المذكور بوضوح. بيد أننا نعتزم عرض هذا الجانب مشفوعا مع الملاحظات التي يمكن أن تثار حيال منهجه في هذا الصعيد.
ونقف أولا مع منهجه في التعامل مع النصوص " كتابا أو سنة ":
كلمة المقدم 39
التعامل مع النصوص: 1 التفسير اللغوي: يتعامل المؤلف مع النصوص وفقا لما يتطلبه التعامل من كشف لدلالاتها اللغوية أو لا، أي الكشف أو التفسير لدلالة لغوية كالظواهر النحوية مثلا أو الدلالة المعجمية للعبارات أو الدلالة العرفية لها.
في صعيد الكشف اللغوي مثلا، نواجه تفسيره للآية الكريمة: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) حيث أوضح مفروغية القراءة بالجر وليس النصب، مشيرا إلى قراءة كل من ابن كثير وأبي عمر وحمزة وسواهم، واتفاق أهل اللغة على اشتراك الواو في المعنى والإعراب، موردا الإشكال الذاهب إلى أن الجر لا يقتضي العطف على المجرور لإمكانية أن يكون العطف على الأيدي والجر بالمجاورة، مستشهدا ببيت شعري وبمثل، رادا ذلك بأن الإعراب بالمجاورة لا يقاس عليه عند أهل العربية أو لا، وأن بعض النجاة لا يقرونه ثانيا، وأنه يتم في حالة عدم اللبس: كالمثل والبيت اللذين أشرنا إليهما ثالثا، مستشهدا بآية: (وحور عين) - فيمن قرأها بالجر - من أن العطف هو على قوله تعالى: (أولئك المقربون) مع أن أكثرية القراء: على الرفع، موردا - من جديد - إشكالا آخر، هو: القراءة بالنصب أيضا، واقتضاء ذلك: العطف على الأيدي، رادا ذلك بعدم إيجاب النصب: عطف ذلك على الأيدي، لجواز العطف على الرؤوس أيضا، وأن العطف على الموضع هو المشهور لغويا، موردا للمرة الجديدة إشكالا ثالثا، هو أولوية العطف علي اللفظ، رادا ذلك بعدم التسليم بهذه الأولوية، موردا للمرة الرابعة افتراضا آخر، هو: التسليم بإمكان الأولوية المذكورة، إلا أنه أوضح أن هذه الأولوية معارضة بأولويتين مثلهما، وهما القرب من جانب، وقبح الانتقال من حكم قبل تمامه إلى آخر غير مشارك له من جانب آخر، موضحا - في نهاية كلامه - " بعد أن يستشهد بنماذج في هذا الصدد " أن العطف على الأيدي ممتنع لاستتلائه بطلان قراءة الجر، في حين أن العطف على الموضع تقتاد إلى الجمع بين القراءتين. إلخ.
كلمة المقدم 40
واضح من هذه الممارسة، أن المؤلف قد بذل أقصى الجهد في التدليل علي مفروغية القراءة بالجر، حيث عرض مختلف الوجوه التي تسوغ القراءة بالجر، وعرض مختلف الوجوه التي تسوغ العكس، رادا عليها جميعا من خلال الاستشهاد باللغويين والنصوص، بالنحو الذي عرضنا له، مما تكشف مثل هذه الممارسة عن سعتها ودقتها واستيعابها لكل الجوانب، وهو ما يتطلبه الكشف العلمي الجاد في صعيد التفسير اللغوي للنص من الزاوية النحوية.
والأمر نفسه بالنسبة إلى التفسير " المعجمي ". ففي تفسيره لدلالة " الصعيد " الذي يتيمم به، أورد المؤلف مجموعة من أقوال اللغويين وغيرهم ممن فسر " الصعيد " بأنه " التراب " أو التراب الخالص " أو " غبار الأرض المستوية ". إلخ، مضافا إلى اعتماده " الحسن أو الذوق الفني الخاص " في رده على الاتجاه الذاهب إلى إمكانية شمول " الصعيد " لما كان من جنس الأرض أو مشابهه، مثل الرماد والجص وغيرهما، معلقا على نفي ذلك بأكثر من وجه ومنه قوله: (الطهارة اختصت بأعم المائعات وجودا، وهو: الماء، فتخص بأعم الجامدات وجودا، وهو: التراب).
وبالرغم من أن هذا التعليل لا يكشف ضرورة عن الأسرار الكامنة وراء التيمم بالتراب، إلا أنه ينم عن تذوق خاص لدلالة العبارة في أحد جوانبها بخاصة أنه أورد ذلك في سياق الرد على من ذهب إلى أن " النعومة " وغيرها هي المسوغ في مشاركة " الرماد " وغيره لدلالة " الأرض "، حيث إنه نفى هذا المعيار وحصره في الأرض، وفسر ذلك في ضوء تذوقه الخاص الذي أشرنا إليه.
ومهما يكن، يعنيا أن نشير إلى أن المؤلف يمنح الممارسة المرتبطة بتفسير النص لغو يا " نحويا أو معجميا " كل متطلبات الموقف، ما دام التعرف على دلالته اللغوية يشكل الخطوة التمهيدية للتعامل مع النص، بصفة أن استخلاص دلالته شرعيا يتوقف على فهمه لغويا أولا، كما هو واضح.
هذا إلى أنه - في حالة تعارض النصوص اللغوية - يرتكن إلى وجهة نظر المشرع الإسلامي في
كلمة المقدم 41
حسم الموقف وهذا من نحو تحقيقه اللغوي لعبارة " الكعبين " التي وردت في باب الوضوء، فيما خلص من تحقيقه إلى أن المقصود منهما هو: العظمان في وسط القدم، وليس النابتين في جانبي الساق، كما زعم بعضهم والمؤلف بعد أن يثبت ذلك، يتقدم بالرد على بعض اللغويين ممن فسر ذلك تبعا للمخالف، علق قائلا: (فما نقلناه عن الإمام الباقر " ع " أولى) مشيرا بذلك إلى ما ورد عنه " ع " من تفسيرهما بما تقدم. ومن الواضح أن مثل هذا الترجيح لقول المشرع الإسلامي يحمل قيمة استدلالية مهمة: ما دام المشرع الإسلامي يملك الحسم في تحديد ما هو مختلف فيه، حتى لو كان ذلك في صعيد اللغة، بالنحو الذي لحظناه.
وهذا فيما يتصل بالكشف: نحويا ومعجميا.
والأمر نفسه فيما يتصل بالكشف: أو التفسير للنص، من خلال لغته " العرفية ".
ويمكن تقديم نموذج - على سبيل الاستشهاد - في هذا الميدان. ففي تفسيره لقوله تعالى: (إذا ضربتم في الأرض) الواردة في صلاة القصر، رد الذاهبين إلى أن " القصر " يتحقق مع خروج المسافر من منزله، ردهم بأن ذلك يتحقق مع خفاء الجدران، وأن " الضرب في الأرض " لا يتحقق مع الحضور في البلد، فلا بد من التباعد الذي يصدق معه اسم " الضرب ".
فالملاحظ في هذا النمط من أنه قد اعتمد " العرف " في توضيحه لدلالة الضرب في الأرض، كما هو واضح.
هنا يتعين علينا أن نشير إلى المؤلف - في بعض ممارساته - يحمل النص تفسيرا يصعب التسليم به. وهذا من نحو تأويله مثلا - في صعيد اللغة العرفية - لرواية تحدد الحيض بثمانية أيام " من طرف كثرته "، حيث علق عليها قائلا: (الغالب وقوع المتوسط وهو ثمانية أيام أو سبعة أو ستة، فيكون ذلك إشارة إلى بيان أكثر أيامه في الغالب، لا مطلقا). إن هذا التأويل لا يمكن التسليم به، لبداهة أن " الوسط " لا يتحدد في الرقم المذكور، بدليل أن المؤلف نفسه قد ذكر الستة والسبعة أيام أيضا، كما أن " الغالب " لم يتحدد عرفا - في الرقم المذكور نظرا لعدم إمكان " الاستقراء " في ذلك.
كلمة المقدم 42
ولو أن المؤلف طرح هذا الخبر لشذوذه مقابل الشهرة الروائية لرقم " الشهرة أيام " لكان أجدر. والمؤلف أقر - في الواقع - بشذوذ الرواية عندما قال في البدء: (هذا خبر لم يذهب إليه أحد من المسلمين)، إلا أنه أضاف قائلا: (فيجب تأويله). ولعل قناعته بصحة الرواية من جانب، وحرصه على مقولة " الجمع أولى من الطرح " حمله على التفسير المتقدم، وهو أمر سنعرض له عند حديثنا عن " تأليفه بين النصوص " في حقل لاحق حيث يمكن أن يثار " التشكيك " حيال " المقولة المذكورة بالنحو الذي نعرض له في حينه.
المهم، أن هذه الأنماط الثلاثة من التفسير اللغوي للنص: نحويا ومعجميا وعرفيا، تظل خطوة أولى من التعامل مع النص، قد توفر المؤلف عليها حسب ما يتطلبه الموقف من تفصيل أو اختزال.
أما الخطوة الأخرى لتعامله مع النص، فتتمثل في: 2 التفسير من خلال النص: وهو أن يفسر النص في ضوء سياقه الذي ورد فيه، أو في ضوء النصوص الأخرى الواردة في المسألة المطروحة، أو غير ها مما تفتقر إلى التوضيح: للإجمال الذي يطبع النص، وهذا ما يندرج ضمنه: التأليف بين النصوص " من خلال ما يسمى ب‌ " الجمع العرفي "، ويتجاوزه إلى " الجمع التبرعي " أيضا وسائر الأشكال التي تجمع بين النصوص المتضاربة في الظاهر.
أما النمط الأول من الأول من التفسير، أي: كشف الدلالة من خلال سياقها الذي وردت فيه، فيمكن ملاحظته في ممارسات متنوعة من نحو رده مثلا على من ذهب إلى أن الفاقد للماء " حضرا " لا يشمله حكم " التيمم "، نظرا لوروده في سياق " السفر " تبعا للآية الكريمة عن التيمم. حيث رد ذلك بقوله: (الآية لا تدل عليه، لأنه تعالى ذكرا أمورا في الأغلب هي أعذار كالمرض والسفر، فإذا خرج الوصف مخرج الأغلب، لا يدل على نفي الحكم عما عداه.).
ومن نحو رده على من ذهب إلى وجوب غسل الجمعة مثلا، استنادا إلى رواية:
كلمة المقدم 43
(قال " ع ": اغتسل يوم الفطر والأضحى والجمعة) من حيث إن الأمر يدل على الوجوب.
رد ذلك قائلا: (لو كان للوجوب كانت الأغسال التي عددها واجبة، وليس كذلك).
ففي هذه الممارسة وسابقتها فسر المؤلف دلالة النص في ضوء السياق الذي وردت فيه، حيث كان السياق في الآية الكريمة يتناول أمورا تقترن بالأعذار مثل " السفر " و " المرض " وحيث كان السياق في الرواية يتناول أغسالا ليست واجبة كالفطر والأضحى. ومن الواضح، أن التفسير من خلال السياق ينطوي على أهمية كبيرة في صعيد الكشف عن الدلالة المستهدفة في النص، لبداهة أن عزلها عن السياق الذي وردت فيه، يجعل الحكم مبتورا، كما هو واضح.
إلا أنه يلاحظ في بعض الأحيان - أن المؤلف تتعذر عليه إضاءة الدلالة من خلال سياقها الذي وردت فيه فنجده مثلا في محاولته الاستدلال على عدم وجوب الأذان والإقامة في صلاة الجماعة، يرد الذاهبين، إلى وجوبها - في استنادهم إلى الرواية القائلة: (سألته " ع ": أيجزي أذان واحد؟ فقال " ع ": إن صليت جماعة لم يجز إلا أذان وإقامة، وإن كنت وحدك تبادر أمرا تخاف أن يفوتك، تجزيك إقامة إلا الفجر والمغرب، فإنه ينبغي أن تؤذن فيهما وتقيم) حيث عقب المؤلف على هذه الرواية بقوله: (يحتمل الاستحباب، ويدل عليه: إلزامه بالإقامة، في حالة الانفراد).
فالملاحظ، أن المؤلف كان في صدد الرد على عدم وجوب الأذان والإقامة جماعة، ولكن ليس في الرواية ما يدل على نفي الوجوب، بل هناك دلالة على سقوط الأذان في الصلاة المنفرد. لذلك تتعذر ملاحظة علاقة بين تفسيره لعدم وجوبهما جماعة وبين السياق [1] الذي اعتمد عليه في التدليل على ذلك، حيث لا علاقة بين الإلزام بالإقامة عند


[1] ويمكن جعله من التفسير بالسياق ببيان أن ظاهر سياق الحديث وحدة كيفية مطلوبية الإقامة للمنفرد
ومطلوبية الأذان والإقامة في الجماعة، وحيث أن المسلم استحباب الإقامة للمنفرد، فهكذا، يستحب الأذان والإقامة
في الجماعة. [هذه الملاحظة وما يتبعها من الهوامش، مما تفضل به سماحة آية الله مؤمن " حفظه الله " على هذه
المقدمة، أثبتناها لمزيد].
كلمة المقدم 44

الانفراد، وبين وجوبهما جماعة، كما هو واضح.
أما ما يتصل بتفسير النص في ضوء الإضاءة بالنصوص الأخرى، فإن المؤلف يتوفر
عليه بطبيعة الحال سواء أكان ذلك في نطاق الجمع بين ما هو عام، وخاص، ومطلق،
ومقيد ونحوهما، أو في نطاق الجمل على الاستحباب أو الكراهة، أو في نطاق ما هو مجمل
أو مبين، أو في نطاق " التأويل " مطلقا بحيث يزول التنافي بين النصين المتضاربين.
ولا نجدنا بحاجة إلى الاستشهاد بنماذج في هذا الصدد نظرا لوضوحها في الأذهان.
بيد أن ما يلفت النظر حقا، هو أن المؤلف يبدي حرصا بالغ المدى على ضرورة الجمع
بين النصوص، بدلا من طرحها: خلا ما يتسم منها بضعف السند. ومن الواضح أن هذا
الحرص هو صدى لمقولة معروفة قد اشتهرت بين الفقهاء، بخاصة لدى " الطوسي " الذي
أكد هذه المقولة نظريا في كتابه الأصولي " العدة " وطبقها في ممارساته المتنوعة، وهي مقولة
" الجمع أولى من الطرح " مهما أمكن.
بيد أن هذه المقولة تقتاد في كثير من الحالات التي يصعب فيها الجمع بين المتضاربين
إلى نمط من التفسير الذي قد لا يتحمله النص، مما نجده بوضوح في كثير من
تفسيرات " الطوسي " بحيث أن " العلامة " - وهو يشارك الطوسي في هذا الاتجاه - قد أشار
بدوره إلى بعض هذه النماذج المطبوعة بسمة " التكلف ".
لا نشك أن هذا الاتجاه لدى " الطوسي " يعد عمال رائدا من شخصية متفردة طوال
التأريخ الفقهي، كما أن حرصه على عدم طرح الخبر - مهما أمكن - يدل على صواب وجهة
نظره: ما دام " التأويل " أمرا قد أشار إليه أهل البيت " ع " وما دام التمييز صعبا بين ما هو
مقبول أو غير مقبول من الدلالات، وهذا ما توفر عليه الطوسي في ممارساته " الرائدة " التي
شكلت تراثا ضخما في تأريخ الفقه. إلا أن الإلحاح على هذا النمط يقتاد إلى تحميل
النص أحيانا ما لا يحتمله، كما قلنا.
وحين نعود إلى " العلامة " نجده أيضا موفقا في ممارساته القائمة على المقولة المذكورة، إلا
أنه أيضا يقع - نتيجة إلحاحه على هذا الجانب - في بعض الممارسات التي تثير
التساؤل. المؤلف ينجح دون أدنى شك - في تأويلاته الجامعة بين دلالات
كلمة المقدم 45

النصوص، وهذا مثل حمله - على سبيل الاستشهاد - لما ورد من الإسهام للمرأة في الغنيمة،
حيث حمله على " الرضخ " وحيث ورد من النصوص ما يشير إلى إعطائها " سهما " في بعض
حروب النبي " ص " مماثلا لما " أسهمه " للرجال، فيما عقب المؤلف على هذه النصوص
قائلا:
(يحتمل أن الراوي سمى " الرضخ " سهما "، وقولها - أي: المرأة الراوية لهذا الخبر -:
" أسهم لنا كما أسهم للرجال " معناه: قسم بيننا الرضخ كما قسم الغنيمة بين الرجال).
أمثلة هذا " التأويل " تتناسب مع دلالة النص الذي تردم الفارق بين " الرضخ "
و " السهم " بصفة أن كليهما تعبير عن إعطاء الحصة لمن اشترك في المعركة، بغض النظر عن
الفارس الذي يتعين له: الإسهام، والعبد أو المرأة اللذين يتعين لهما الرضخ مثلا. إلا أن
هناك " تأويلات " لا تتجانس فيها عبارة النص مع تأويل المؤلف. وهذا من نحو
تعقيبه - على سبيل الاستشهاد - على الروايات التي تشير إلى أن المتيمم إذا دخل في الصلاة
ووجد الماء أثناء ذلك، فعليه أن يتم صلاته ما لم يركع عقب قائلا:
(ويمكن أن يحمل قوله " ع " وقد دخل في الصلاة " قارب الدخول فيها، أو دخل في
مقدماتهما من التوجه بالأذان والتكبير، وقوله " فلينصرف ما لم يركع " أي: ما لم يدخل في
الصلاة ذات الركوع، وأطلق على الصلاة اسم الركوع مجازا من باب إطلاق اسم الجزء على
الكل، وهذان المجازان - وإن بعدا - إلا أن المصير إليهما للجمع أولى).
فالمؤلف يقر بأن المصير إلى هذين المجازين بعيد، ولكنه يقر أيضا بأن المصير إليها أولى
من أجل الجمع بين النصوص. إن بعد هذين المجازين عن الحقيقة أمر من الوضوح
بمكان كبير، حيث لا يمكن الاقتناع بأن عبارة " دخل في الصلاة " معناها قارب الدخول "
في الصلاة " فإن هذا خلاف العرف اللغوي، كما أن عبارة " ما لم يركع " لا يمكن أن تعني
" ما لم يدخل في الصلاة ذات الركوع " لأن أمثلة هذه الاحتمالات تلغي حجية كل
الظواهر اللغوية التي تسالم عليها العرف. إلا أن الإنصاف يقتضينا أن نقرر بأن المؤلف
- كما لحظنا - أخضع هذه التأويلات لمجرد " الاحتمال " حيث صرح بذلك بقوله:
(ويحتمل.) كما أخضعها للبعد بقوله: (وإن بعدا) كما حملها - أولا - " وهذا هو المهم "
كلمة المقدم 46

على الاستحباب، حيث اتجه إلى هذا الحمل في أول ردوده. وبما أن المؤلف - كما سنرى
لاحقا لا يكتفي في تقديم أدلته وردوده بدليل واحد أو وجه واحد بل يعرض كل
الاحتمالات الواردة، حينئذ نستخلص بأن الدليل أو الوجه الذي يعتمده أساسا هو: ما
يذكره أولا، وهذا هو الذي يمنح ممارسته الفقهية قيمتها الحقة، وأن ما يذكره من أدلة أو
وجوه أخرى تظل مجرد أدوات يستخدمها لإلزام المخالف، فيا يفصح مثل هذا المنحى في
الاستدلال عن كونه خطأ في حقل المناقشة والرد ونحوهما، وليس خطأ في استخلاص
الحكم النهائي للمسألة، حيث قلنا أن استخلاصه للحكم يتحدد - في الغالب - في الدليل أو
الوجه الأول من فاتحة الأدلة أو التي يسردها في مناقشاته مع الآخرين.
3 النص والتعارض: الممارسات المتقدمة، تمثل نموذجا لتعامل المؤلف مع النصوص المتضاربة التي لا يمكن
الجمع بينها، فإن المؤلف يسلك المنحى الاستدلالي الذي تفرضه طبيعة الموقف في أمثلة هذا
التضارب الذي عرضت له روايات أهل البيت عليهم السلام، وقدمت الحلول المتنوعة في
معالجته، متمثلة في ترجيح الموثوق سندا، والمشهور رواية والموافق للقرآن الكريم،
والمخالف لآراء العامة. إلخ.
أما ما يرتبط بوثاقة الراوي، فسنعرض له لاحقا عند حديثنا عن تعامله مع السند.
وأما المرجحات الأخرى، فإن المؤلف يتوفر على العمل بها بنحو ملحوظ، وفي مقدمتها
الترجيح بالشهرة الروائية. وهذا ما يمكن ملاحظته في ممارسات متنوعة، من نحو
ترجيحه للروايات الذاهبة إلى أن حد النفاس هو حد أكثر الحيض مقابل ما ورد من
النصوص التي تحدده أكثر من ذلك معلقا على ذلك بقوله: (إن ما رويناه أكثر، والكثرة
تدل على الرجحان)، ومن نحو ترجيحه للروايات المحددة لرؤية الهلال بالرؤية ومضي
ثلاثين يوما، مقابل رواية تحدده بالغيبوبة قبل الشفق وبعده: (إذا غاب الهلال قبل
الشفق فهو لليلة، وإذا غاب بعد الشفق فهو لليلتين) حيث رجح الروايات الأولى، بقوله:
(لكثرتها واشتهارها حتى قاربت المتواتر). ونحو التعقيب الذي استند فيه إلى وجهة نظر
كلمة المقدم 47

الطوسي، على رواية شاذة تنفي وجوب طواف النساء في العمرة المفردة: (يجب العدول
عنها، إلى العمل بالأكثر. إلخ).
وهذا بالنسبة للشهرة الروائية، أما العملية فإن المؤلف مقتنع بكونها أحد المرجحات في
حقل التعارض بين النصوص، أو مطلقا، وهذا ما يمكن ملاحظته في الممارسة التالية،
حيث رجح بها الرواية التي تقرر بأن العائد من السفر ينتهي عند الحد مقابل الرواية الذاهبة
إلى أنه ينتهي مع دخوله البيت، قائلا وهو في معرض الرد: (يترجح ما ذكرناه أولا لوجوه:
أحدها: الشهرة بين الأصحاب).
طبيعيا، لا يعنينا أن تكون قناعة المؤلف بهذه الشهرة نابعة من استخلاصه إياها من
المرجحات المنصوص عليها (مثل قوله " ع ": خذ بما اشتهر بين أصحابك) في مرفوعة زرارة،
أو في رواية ابن حنظلة التي استفاد البعض منها الشهرتين: الروائية والفتوائية، أو تكون
قناعته نابعة من مطلق المرجحات التي يتوكأ المؤلف عليها في ممارساته عند تعارض
الخبرين، أو الخبر مع الأصل. إلخ، بقدر ما يعنينا أن نشير إلى أن " الشهرة " تظل واحدا
من المرجحات عند التعارض. ولكن ليس بنحو مطلق، بل حسب متطلبات السياق
حيث سبق أن لحظنا - في رد المؤلف على القائلين بعدم انفعال البئر بالنجاسة - عدم قناعته
بعمل الأكثر وأنها ليست حجة (2) ولكنها تكون كذلك في سياقات خاصة.
وأما الترجيح بموافقة القرآن الكريم، فيمكن ملاحظته في ممارسات متنوعة، منها:
ترجيحه للروايات النافية لغسل الجنابة بالنسبة لمن يتضرر به مقابل الروايات الآمرة
بالغسل، حيث عقب على الروايات الأخيرة قائلا: (وهذه الروايات - وإن كانت صحيحة
السند إلا أن مضمونها مشكل، إذ هو معارض لعموم قوله: تعالى: (ما جهل لكم في الدين
من حرج). ومنها:
رفضه للرواية الواردة بأن النبي " ص " مسح على الخف بالنسبة للوضوء، حيث عقب قائلا:



[2] من الواضح عند أهله أنه فرق بين كونه الشئ مرجحا لأحد المتعارضين وكونه حجة بنفسه، فمجرد عمل
الأكثر لا حجة فيه، إلا أنه من المرجحات، فإذا عمل الأكثر بما كان مقتضى الأدلة خلافه لا يعتنى به، وأما إذا وقع
بين طائفتين من الروايات تعارض فالترجيح مع ما عمل به الأكثر.
كلمة المقدم 48

(إن هذه الرواية تقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد، وذلك لا يجوز).
وبالرغم من أن هذه الممارسة ترتبط بموضوع آخر هو:
* بالنسبة إلى إمكانية النسخ وعدمه، إلا أنها تطبيق واضح لعملية الترجيح (3) بموافقة
الكتاب، خاصة أن المؤلف أضاف إلى دليله المتقدم قائلا: (فهي معارضة برواية على " ع "
نسخ الكتاب المسح على الخفين) حيث يجسد هذا التعليق: الأخذ بالنص القرآني مقابل
معارضة الخبر.
وأما الترجيح بمخالفة العامة، فإن نماذجه متنوعة في هذا الميدان، فيما لا حاجة إلى
الاستشهاد بها مع ملاحظة أن المؤلف يتحفظ أحيانا في العمل بهذا المرجح إما لكونه يتعامل
مع العامة في مقارناته أو لإمكان قناعته بالمرجحات الأخرى بما أنها أقرب إلى الواقع في
تصوره، ولعل الملاحظ في هذا الصعيد أن المؤلف في كثير من ممارساته، يتوكأ على الشيخ
الطوسي في العمل بهذا المرجح، مما يكشف ذلك عن " تحفظه " - كما قلنا حيال المرجح
المذكور.
هذا، وينبغي أن نشير إلى أن المؤلف يتجاوز - بطبيعة الحال - العمل المرجحات
المنصوص عليها، إلى غيرها من المرجحات الأخرى - في حالة التعارض - مما نلحظه
- نظريا - في كتابه الأصولي المقارن: " نهاية الوصول " حتى أنه يسرد عشرات المواقف التي
يتعين فيها ترجيح الخبر على غيره، كما أنه - تطبيقيا - يمارس أكثر من عملية استدلال في
هذا الصعيد مما نعرض لنماذجه عند حديثنا عن تعامله مع السند.
4 استقراء النصوص:
من الظواهر اللافتة للنظر في تعامل المؤلف مع النصوص، أنه طالما يدعم أدلته التي
يعرضها بمشابه لها من النصوص المرتبطة بمختلف أبواب الفقه. وهذا ما يمكن ملاحظته في



[3] عملية الترجيح بموافقة الكتاب معناها حجية كل من الطائفتين لولا تعرضهما، وما نقل عن كتاب في
الموردين، إنما هو من باب رد الحديث بمخالفة الكتاب، وبينهما فرق واضح، فتأمل جيدا.
كلمة المقدم 49

عشرات الممارسات، من نحو:
1 * بالنسبة إلى وجوب الطلب عند فقدان الماء، علق: (ولهذا لما أمر بالإعتاق في
كفارة الظهار ثم بصيام الشهرين إن لم يجد، كان الطلب واجبا، ثم حتى أنه قبل الطلب
لا يعد أنه غير واجد، فكذا هاهنا). وعلق أيضا على الموضوع ذاته: (ولأنه سبب
للطهارة، فيلزمه الاجتهاد في تحصيله بالطلب والبحث عند الإعواز، كالقبلة.).
2 * بالنسبة لعدم وجوب قضاء الصوم عن الميت الذي حجزه المرض عن الصوم،
علق: (ولأنه مات من يجب عليه قبل إمكان فعله، فسقط إلى غير بدل، كالحج).
3 * بالنسبة لاستحباب التأخير إلى آخر الوقت برجاء الحصول على الماء، علق: (لا
ضرورة قبل التضييق، ولأنه يمكن وصول الماء إليه، فكان التأخير أولى، فإنه قد استحب
تأخيرها لإدراك الجماعة) وللتدليل على جواز تأخير الصلاة بالتيمم دون وجوب، علق
قائلا: (ولأنه لو وجب التأخير لرجاء حصول الطهارة، لوجب على أصحاب الأعذار ذلك
كالمستحاضة).
4 بالنسبة إلى إجزاء غسل الجنابة عن الوضوء علق: (ولأنهما عبادات من جنس
واحد، فتدخل الصغرى في الكبرى، كالعمرة والحج). وعلق أيضا على الروايات الآمرة
بالتيمم لكل صلاة: (يحمل ذلك على الاستحباب، كما في تجديد الوضوء)
5 * بالنسبة إلى تقديم زكاة الفطر قبل وقتها، علق: (إن سبب الصدقة: الصوم
والفطر، فإذا وجد أحد السببين، جاز التقديم، كزكاة المال).
6 * بالنسبة لمن ظن الغروب أو الطلوع، فأكل ثم شك، علق: (لا قضاء عليه.
فأشبه ما لو صلى ثم شك في الإصابة بعد صلاته).
هذه الأمثلة وعشرات سواها تظل نموذجا لمنهج المؤلف في تعامله مع النصوص " المشابهة "
التي يتوكأ عليها في دعم أدلته الشرعية والعقلية. ولا شك أن أمثلة هذه الأداة
الاستدلالية تحمل قيمة ذات أهمية ملحوظة طالما تظل الاستعانة بالأحكام التي تفرزها
النصوص الأخرى، تجسد إثراءا لعملية " الإقناع " بالدليل، بخاصة أن المؤلف يورد أمثلة
هذه " الاستقراءات " بمثابة دعم لمختلف الأدلة، فضلا عن أنه في بعض الحالات، قد
كلمة المقدم 50

يستشهد بالرواية التي تتضمن عنصر التشابه الذي يورده.
بيد أن تعامل المؤلف مع الدليل الاستقرائي، تنتفي ضرورته عندما يتكفل النص
بتحديد ذلك، وتعذر القناعة به حينا آخر، عندما يقدم استقراءا ناقصا لا شاهد عليه من
الموارد الأخرى، أو كون الشاهد لا يتضح مناطه في هذا الاستقراء أو كونه مشكوكا على
الأقل، حيث نلحظ التشكيك عند المؤلف أحيانا، من نحو ذهابه إلى أن قراءة (سبح) في
صلاة العيدين - وهو يرد على الروايات التي ورد فيها غير السورة المذكورة - يقول: (ولأن في
سبح الحث في زكاة الفطرة فاستحب قراءتها في يوم فضلها، كالجمعة) فهو يعلل قراءة سبح
في العيدين من خلال شباهتها لقراءة سورة الجمعة في يوم الجمعة من حيث التجانس، مع
أن صلاة الأضحى ليس فيها زكاة الفطر، فما هو وجه الشبه أو المناط في ذلك؟ مضافا
إلى أن مناسبة قراءة السورة في الجمعة لا تعني أنها مأخوذة من الموارد الأخرى، كما هو بين
وهذا من نحو ممارسته الذاهبة إلى أن المرأة لو طافت أكثر من النصف تتم طوافها بعد
الطهر وإلا تستأنف. وبما أن النصوص الواردة في غير الحائض أشارت إلى هذا المعيار - وهو
تجاوز النصف أو عدمه - حينئذ علق المؤلف على طواف المرأة قائلا: (قد ثبت اعتبار مجاوزة
النصف في حق غير الحائض باعتبار أنه المعظم، وإن كان هذا أصلا فليعتمد عليه.) بيد
أن هناك رواية معتبرة تقول: (امرأة طافت ثلاثة أطواف أو أقل من ذلك ثم رأت دما،
فقال (ع) تحفظ مكانها، فإذا طهرت طافت منه واعتدت بما مضى) وقد علق المؤلف على
هذا الرواية بأن ابن بابويه أفتى بمضمونها نظرا لإسنادها، بخلاف الروايات التي تشير إلى
معيار مجاوزة النصف.
أن أمثلة هذه الرواية تزيل حكم الاستقراء، لأن مجرد مجاوزة النصف بالنسبة لغير
الحائض لا يعني تمريره على الموارد الأخرى حيث يجر مثل هذا المعيار الفقيه أحيانا إلى الوقوع
في القياس المنهي عنه، ذلك يصعب الاقتناع بوجهة نظر المؤلف في التماسه أمثلة هذه
الاستقراءات، بخاصة أنه لا يعمل بالضعيف الذي أشار إلى مجاوزة النصف. هذا إلى أن
بعض الموارد كما أشرنا - يصعب فيها الاستقراء نظرا لعدم وجود مناط أو علاقة وثيقة بين
المسألة المبحوث عنها والمسألة المقيس عليها، وهذا مثل ذهابه إلى أن غسل الجنابة مجز عن.
كلمة المقدم 51

الوضوء حيث شبهه بالحج المجزي عن العمرة المفردة، من حيث دخول الأصغر ضمن
الأكبر، حيث يرد على هذا الاستقراء السؤال القائل: إذا كان المعيار هو دخول الأصغر
ضمن الأكبر فلماذا ينفرد غسل الجنابة دون غيره من الأغسال في الحكم المذكور؟ لذلك
كما قلنا - تصعب القناعة أحيانا بأمثلة هذا الاستقراءات لكن خارجا عن أمثلة هذه
الموارد يظل تعامل المؤلف مع الأدلة الاستقرائية (4)، عملا له أهميته وإمتاعه فقهيا وفنيا.
5 تعليل النصوص: هناك ظاهرة استدلالية تلفت النظر حقا، حتى أنه ليكاد المؤلف يتفرد فيها من حيث
تضخيمها في ممارساته، ألا وهي: " التعليل " الذي يقدمه في أدلته. أي: أن المؤلف يضطلع
بتقديم السبب الكامن وراء النص الذي يتضمن هذا الحكم الشرعي أو ذاك. طبيعيا، إن
الأحكام لا تصاب بالعقول، وهي حقيقة لا يتجادل فيها اثنان لكن في الآن
ذاته ثمة " أحكام " قد " عللها " الشرع نفسه، كما أن هناك " أحكاما " من
الممكن أن يدركها " الخبير " في مسائل النفس، والاجتماع، والتربية، والاقتصاد.
إلخ، بحيث يستخلص السر الكامن وراء هذا الحكم الشرعي أو ذاك، كما لو أدرك
الطبيب مثلا سر " الصوم " من حيث المعطى الصحي له، أو سر التحريم الذي يكمن في



[4] إلا أن يقال: إن مبنى كلمات المصنف في هذه الموارد ليس الاستقراء، بل مبناه الاستناد إلى قاعدة كلية
يكون مورد كلامه من صغريات تلك القاعدة، ويذكر موردا آخر يكون هو أيضا عنده من صغرياتها مع زيادة تسلم
حكم القاعدة في هذا المورد الآخر، فمثلا: مسألة وجوب طلب الماء في المسألة الأولى مستفاد من تعليق حكم التيمم
على عدم وجدان الماء، فيدل أنه حكم ثانوي اضطراري، فلذلك يجب طلب ما علق الحكم الثانوي على عدم
وجداني، لأنه القاعدة العقلائية في تمام موارد الاضطرار. ونظيره مسألة مقايسة وجوب التأخير لصاحب الأعذار عند
احتمال ارتفاع العذر، فإنه لا وجه له، إلا أن الواقع المحتمل واجب الرعاية، وهو يقضي مساواة جميع الموارد، وحيث
لا يقتضي في مثل الاستحاضة، فلا بد وأن لا يقتضي فاقد الماء.
وبالجملة، يمكن أن يقال: ليس مبنى كلامه الاستقراء الظني لا حجية له، بل مبناه الاستناد إلى قاعدة
كلية، وإن كان لنا أن نناقش أحيانا في بعض ما قال.
كلمة المقدم 52

ظواهر مثل الخمر، أو لحم الخنزير، أو الميتة من حيث الخسارة الصحيحة. أو كما يدرك
الخبير النفسي والتربوي و الاجتماعي سر الحظر لظواهر مثل القمار والغش والغناء وسواها
من حيث الأمراض النفسية والاجتماعية التي تترتب على ممارسة الظواهر المنهي عنها. أيضا
من الممكن أن يدرك الفقيه بعض الأسرار المرتبطة بوجوب أن حرمة هذا الشئ أو ذاك.
وهذا ما يسوغ الركون إلى ظاهرة " التعليل " في جانب من ممارسات المؤلف - كم قلنا -
فمثلا، نجد أن المؤلف قد عقب على الأصناف التي لا تقصر في صلاتها عند السفر، قائلا:
(ولأن الفعل المعتاد (5) يصير كالطبيعي، والسفر لهؤلاء معتاد، فلا مشقة فيه عليهم،
فلا يقصر) كما نجده في تعقيبه على إتمام الصلاة في الأماكن المقدسة الأربعة، يقول:
(ولأنها (6) مواضع اختصت بزيادة شرف، فكان إتمام العبادة فيها مناسبا لتحصيل فضيلة
العبادة فيها، فكان مشروعا).
أن أمثلة هذا التعليل تفرض مشروعيتها لسبب واضح، هو: أن فهم الأحكام له دخل
كبير في إقناع الشخصية غير المؤمنة، كما أن له دخلا في تعميق القناعة لدى المؤمن، بيد أن
هناك نمطين من البحث يمكن أن يتوفر الباحث عليها في هذا الميدان، أحدهما: أن يكون
التناول لهذه الظواهر يختص بدراسة مستقلة، كما لو تناول عالم النفس، أو الاجتماع، أو
الاقتصاد، مسائل نفسية، واجتماعية، واقتصادية، ودرسها في ضوء الأحكام التي
توجب، تحرم أو تبيح، أو تندب لهذا العمل أو ذاك. والنمط الآخر، هو: أن يبين
الفقيه نفسه " علل الأحكام، على نحو التعقيب والتعليق عليها (7). إلا أن المؤلف - كما
يبدو - قد أورد هذه التعليلات ضمن الأدلة وليس ضمن التعليق عليها، وهذا ما ينبغي أن



[5] ربما يستفاد هذا التعليل من نحو قولهم عليهم السلام في مقام التعليل بوجوب التمام، بيوتهم معهم، منازلهم
معهم; لأنه عملهم. (5 و 6 و 12 و 11 الوسائل، صلاة المسافر).
[6] هذه العلة مستفادة من نصوص متعددة كصحيح علي بن مهزيار، وخبر عمران بن حمران، وخبر الحسين بن
المختار (الحديث 4 و 11 و 16 من باب 25 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل) إلى غير ذلك.
[7] قد يقال: هنا نمط ثالث وهو استفادة العلل من النصوص الخاصة، وفي مثل هذه الموارد يستند إلى التعليل
كأحد الأدلة، وفي غيرها يذكرها التعليل مؤيدا أو تفننا.
كلمة المقدم 53

نتحفظ حياله دون أدنى شك، نظرا لإمكانية أن تكون العلة المستكشفة جزءا من " علل "
أخرى مجهولة لدينا، فضلا عن إمكانية ألا تكون " العلة " المستكشفة صائبة أساسا.. وفي
تصورنا أن حرص المؤلف على تعدد الأدلة كما سنرى لاحقا يقتاده إلى عرض التعليل
ضمن سائر الأدلة - التي يعرضها، فهو في النموذجين السابقين أورد نصوصا للاتمام في الصلاة
سفرا بالنسبة إلى الأصناف المشار إليها والأماكن الأربعة ثم أضاف إليها عبارة " ولأن "
حيث توحي هذه العبارة بأن دليلا آخر أضيف إلى النص الشرعي، حتى أننا لنجده يعدد
" الأدلة " حتى في صعيد التعليل ذاته، مثل ممارسته التالية بالنسبة إلى جواز تقديم زكاة
الفطر قبل العيد:
(لنا: أن سبب الصدقة: الصوم والفطر معا، فإذا وجد أحد السببين، جاز التقديم
كزكاة المال، ولأن في تقديمه مسارعة إلى الثواب والمغفرة، فيكون مأمورا به، ولأن خبر حال
الفقراء على القطع، ومع التأخير على الشك لجواز موته أو فقره، فيكون مشروعا. ويؤيده: ما
رواه الشيخ في الصحيح. وهو في سعة أن يعطيها في أول يوم يدخل في شهر رمضان.
ولأن جواز التقديم يوما ويومين يقتضي جوازه من أول الشهر، إذ سببه: الصوم، موجود
هنا، وأما تقديمها على شهر رمضان فغير جائز، عملا بالأصل السالم عن معارضته سبب
الصوم، ولأن تقديمها قبل الشهر تقديم للزكاة قبل السببين، فيكون ممنوعا، كتقديم زكاة
المال قبل الحول والنصاب) إن هذه الممارسة تكشف لنا عن جملة أمور منها: تعدد الأدلة
العقلية حيث أنهاها إلى ثلاثة أدلة: سبب الصوم المسارعة إلى الثواب، اليقين بالفقر أول
الشهر مقابل الشك في آخره ومنها: عرضه لأقوال الفقهاء " الخاصة والعامة " حيث نقل
عن الخاصة تجويزهم ذلك، ونقل عن ابن إدريس عدم الجواز لدليل عقلي هو أن التقديم
إبراء للذمة قبل شغلها وهو باطل، ونقل عن العامة تجويزهم ذلك قبل يومين وبعد انتصاف
الشهر، وأول الحول. من هنا نحتمل أن عرض المؤلف لأدلته العقلية من جانب وتقديمها
على النص من جانب آخر، نابع من كونه يقوم بعملية " مقارنة " حيث تفرض عليه
المقارنة أن يتعامل مع أدلة المخالفين " الخاصة والعامة " ما داموا جميعا قد استندوا إلى دليل
عقلي في جواز التقديم، حيث استند ابن إدريس - وهو من الخاصة - إلى دليل عدم البراءة،
كلمة المقدم 54

واستندت العامة إلى " أقيسة " استقرائية مثل جواز الخروج من المزدلفة قبل منتصف الليل،
ومثل المقايسة بزكاة المال بعد وجود النصاب. إلخ، وحينئذ يتعين على المؤلف أن يعرض
دليله أو رده، مقرونا بما هو " عقلي " أو " استقرائي " أيضا: كما لحظنا. لذلك وجدناه
يضيف دليلا رابعا - بعد إيراده للرواية - يقول فيه: (ولأن جواز التقديم يوما يومين يقتضي
جوازه من أول الشهر، إذ سببه الصوم، موجود). وهذا الدليل، جاء في سياق عرضه
للا تجاه المجوز لتقديم الزكاة قبل يومين، كما هو واضح. لذلك، نجده أيضا " في مرحلة
رده على الآخرين يستند إلى الدليل العقلي نفسه في رده على أبي حنيفة المجوز تقديمها أول
الحول، حيث رده قائلا: (والفرق بين زكاة المال وزكاة الفطرة، لأن السبب هناك:
النصاب، وقد حصل في الحول، فجاز إخراجها فيه، وزكاة الفطر سببها: الفطر بدليل
إضافتها إليه، ولأن المقصود إغناء الفقراء هناك في الحول، وإغناؤهم هنا في هذا اليوم)
إذن: المسوغ للتعامل مع الأدلة العقلية أو الاستقرائية، يظل نابعا من طبيعة الموقف
الذي يفرض على المؤلف مثل هذا التعامل.
بيد أن هذا المسوغ قد يفقد دلالته حينما " يتعارض " مع النص، أو حينما يبتعد
" تعليله " عن جوهر النص أو روح التشريح أساسا. وهذا ما يمكن ملاحظته مثلا في
ذهابه إلى جواز الجمع بين " الجزية " - بالنسبة إلى أهل الذمة - بين وضعها على " الرؤس "
مضافا إلى " الأرض "، حيث علل ذلك بقوله: (لنا: أن الجزية غير مقدرة في طرفي الزيادة
والنقصان. بل هي موكولة إلى نظر الإمام، فجاز أن يأخذ من أرضيهم ورؤسهم، كما
يجوز له أن يضعف الجزية التي على رؤوسهم في الحول الثاني، ولأن ذلك أثبت للصغار.
فالمؤلف هنا " يماثل " (8) بين عدم تقدير الجزية - حيث وردت نصوص في ذلك - وبين
الجمع بين الرأس والأرض " حيث لا علاقة بينهما كما هو واضح " مضافا إلى أن هناك
نصوصا " ظاهرة " في التخيير لا الجمع، مثل قوله " ع ": (ليس للإمام أكثر من الجزية: إن
شاء الإمام وضع على رؤوسهم - وليس على أموالهم شئ، وإن شاء ففي أموالهم - وليس على



[8] بل كلامه " قدس سره " مبني على استفادة الإطلاق من كونها موكولة إلى نظر الإمام، لا على المماثلة.
كلمة المقدم 55

رؤوسهم شئ) فبالرغم من أن عبارة " ليس " تتنافى مع " التخيير "، إلا أنه عقب على هذه
الرواية بقوله: (نحملها على ما إذا صالحهم على قدر، فإن شاء أخذه من رؤوسهم ولا شئ
حينئذ على أراضيهم، وبالعكس: ليس فيهما دلالة على المنع). واضح، أن هذا الحمل لا ينسجم مع قوله " ع ": (وليس على أموالهم شئ) و (ليس على رؤوسهم شئ) وحتى مع
إمكان مثل هذا الحمل، فإن " التعليل " العقلي الذي قدمه المؤلف بقوله: " ولأن ذلك
أثبت للصغار " لا يمكن التسليم به، لأن قوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون) لا يعني أن الوالي بمقدوره أن يحقق كل المصاديق التي ينطبق عليها معنى
" الصغار " بل لا بد من تقييد ذلك بالموارد التي تحددها " السنة " وإلا أمكن للوالي أن يصنع
ما يشاء إمعانا في " الصغار " وهو أمر يصعب التسليم به، كما قلنا.
6 تفكيك النصوص: من الظواهر المألوفة في بعض النصوص، أنها تتضمن أحكاما " نادرة " لا شاهد لها في
النصوص الأخرى، كما لم يعمل بها الفقهاء عامة، إلى جانب تضمنا أحكاما اعتيادية.
فمثلا في إحدى الروايات - جاء فيها: (أن الكذب على الله تعالى ورسوله يفطر الصائم
وينقض الوضوء).. أمثلة هذه الرواية المتضمنة نوعين من الحكم: النادر، والاعتيادي
أو المقبول " يقف الفقهاء حيالها على نمطين: نمط يرفض العمل بها مطلقا نظرا لتضمنها ما هو
غير مقبول، ونمط يعمل بما هو مقبول منها ويرفض الآخر. ونحن إذا أخضعنا هذه
الظاهرة إلى " العرف " حينئذ لا نجد مسوغا لرفض الرواية بجزئيها لمجرد أن أحد جزئيها
خاضع للإحالة. والسر في ذلك أن الراوي من الممكن جدا أن يتوهم في النقل أو السماع
فيثبت إحدى الحقائق بصورة مغلوطة، ويثبت الحقائق الأخرى في صورها الصائبة، وهذا
ما يمكن ملاحظته في حياتنا اليومية التي نخبر فيها أمثلة هذا التوهم. المؤلف يبدو أنه
ينتسب إلى الفريق الثاني الذي يؤمن بإمكان تفكيك الرواية والعمل بأحد أجزائها والرفض
لأجزائها غير المقبولة، وهذا ما نلحظه بالنسبة إلى موقفه من الرواية المشار إليها، حيث ذهب إلى
مفطرية الكذب دون نقضه للوضوء مستندا في ذلك إلى الرواية ذاتها. هذه الرواية لأبي
كلمة المقدم 56

بصير. وهناك رواية لسماعة تتضمن نفس الحكمين، إلا أن المؤلف رفضها لكون سماعة
ضعيفا من جانب، ولكونها مضمرة لم يسندها إلى المعصوم " ع " من جانب آخر، لذلك عقب قائلا: (والأقرب الإفساد عملا بالرواية الأولى، وبالاحتياط المعارض لأصل البراءة).
كذلك في ذهابه إلى مفطرية الغبار، استند إلى رواية سليمان المروزي: (سمعته
يقول: إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان أو استنشق متعمدا أو شم رائحة غليظة أو كنس
بيتا فدخل في أنفه وحلقه غبار، فعليه صوم شهرين متتابعين.). حيث تضمنت الرواية
أحكاما لا قائل بها مثل مفطرية الرائحة. ولكنه قد اعتمدها بالنسبة إلى الغبار " وهذه
الرواية مضمرة " ولكنه لم يعقب عليها، لأسباب نذكرها لاحقا.
كذلك، نجده قد اعتمد رواية عبد الله بن سنان التي تضمنت حكمين، أحدهما:
طهارة ومطهرية الماء المستعمل في رفع الحدث الأصغر، والآخر: عدم مطهرية المستعمل في
رفع الحدث الأكبر، حيث عمل المؤلف بجزئها الأول ورفض العمل بجزئها الآخر، علما
بأن الرواية في طريقها أحمد بن هلال المعروف بالضعف - وسنوضح سر العمل بها في حينه -
بيد أن المهم هو: أن المؤلف في هذه النماذج الثلاثة وفي نماذج أخرى، لا ضرورة للاستشهاد
بها قد فكك بين محتويات النص، فعمل بأحد أجزائها دون الأجزاء الأخرى، انطلاقا من
إدراكه لإمكانية مثل هذا التفكيك بالرواية، وهو موقف يدل على صواب وجهة نظره ما
دمنا قد أشرنا إلى أن إمكان التوهم في شئ لا يستلزم التوهم في الأشياء الأخرى. لكن
ثمة ملاحظ (9) على نمط تعامله مع أمثله هذه النصوص. فالمؤلف عندما
عرض رواية ابن سنان، لم يعلق على ضعفها مع أن دأبه - كما لحظنا عند حديثنا
عن نهجه المقارن في الخطوة الثانية - الإشارة إلى ضعف الخبر بالرغم من كونه واردا ضمن
أدلته الشخصية، ولكننا نجده بعد سطور " وهو يدلل على مطهرية الماء المستعمل في رفع الحدث
الأكبر " ويرد القائلين بعدم مطهريته فيما استندوا إلى الجزء الآخر من رواية ابن سنان



[9] إلا أن هذه الملاحظة غير مرتبطة بمسألة تفكيك مضمون الحديث، فلب الملاحظة أنه " استند في بعض الموارد
إلى حديث أسنده إلى الضعف في مورد آخر ". ولعله يوجد في كلامه حتى في الأحاديث الغير المشتملة على ما لا قائل
به، وهو بعهدة التتبع.
كلمة المقدم 57

نجده يقول (في طريقها ابن هلال، وهو ضعيف جدا). علما بأن المؤلف قد عمل
بهذه الرواية في جزئها الأول. طبيعيا، سوف نرى عند حديثنا عن تعامله مع السند
" وهو أمر لحظناه في تعامله مع روايات الجمهور "، أن المؤلف يستهدف " إلزام
المخالف " فحسب، لذلك " يشكل " عليه ما أمكن، وهو أمر له مشروعيته حقا في حالة
كون المؤلف قد أورد الخبر بمثابة تكثير للأدلة التي تعزز صحة الخبر الضعيف. بيد
أن الأمر الذي تحدر ملاحظته في هذا الصعيد، هو: أن المؤلف عندما ينفرد بدليل
روائي واحد ويرتب عليه الحكم حينئذ لا مجال لمؤاخذة المخالف بالعمل بها. ففي
تدليله على عدم استلزام الكذب للكفارة: رد المخالف على استدلاله بخبري أبي بصير
وسماعة قائلا: (والجواب عن الحديثين باشتمالهما على ما منعتم من العمل به) كما أنه
في استدلاله برواية سليمان بالنسبة إلى استلزام الغبار للكفارة، عقب قائلا:
(الاستدلال بهذه الرواية ضعيف لوجهين، أحدهما: عدم الاتصال إلى إمام. الثاني:
اشتمال هذه الرواية على أحكام لا تثبت على ما يأتي).
فالملاحظ هنا أن استدلاله بكون رواية سليمان تشتمل على أحكام غير ثابتة،
يتزامن مع كونه قد رتب عليها أثرا وهو مفطرية الغبار. كذلك اشتمال رواية أبي بصير
على ما منع به الآخرون العمل، يتضمن نفس الشئ حيث إن المؤلف أيضا قد عمل
بجزء من الرواية وترك العمل بما هو ممنوع منه. لذلك نجد أن " تضادا " ملحوظا في مثل
هذه الممارسات لدى المؤلف، مما يصعب التسليم بها في هذا المجال، إلا مع فرضية
" إلزامه " المخالف. إلا المخالف ما دام قد عمل بجزء من الرواية - بدليل ذهابه
إلى مفطرية الكذب مثلا - حينئذ لا مجال لإلزامه بالقول بأن الرواية تضمنت
ما لم يعملوا بها من الأحكام.
التعامل مع الأصول العملية وسواها:
النماذج المتقدمة، تجسد تعامل المؤلف مع النص: كتابا وسنة، كما تجسد تعاملا مع
الدليل الثالث " العقل ". وأما الدليل الرابع " الإجماع " فقد لحظنا مستوياته عند عرضنا
كلمة المقدم 58

لمنهجه في المقارنة. وأما بالنسبة للأصول العملية وسواها فبالرغم أننا لحظنا تعامله مع
الأصول المذكورة في صعيد " المقارنة " إلا أن ثمة ملاحظات لا بد من عرضها في هذا الحقل
الذي نتحدث عنه الآن، ولعل أهم ما ينبغي أن نلحظه هو: منهج المؤلف في التعامل مع
الأصول، حيث نعرف جميعا بأن الأصل العملي هو: الدليل الثانوي الذي يلجأ إليه الفقيه
في حالة عدم الحصول على الدليل المحرز وهذا ما أشار المؤلف إليه في مواقع متنوعة من
ردوده على المخالف، مثل رده على من اعتمد " الاستصحاب " في طهارة المسكر قائلا:
(الاستصحاب إنما يكون دليلا ما لم يظهر مناف، والأدلة التي ذكرناها أي النصوص
تزيل حكم الاستصحاب) ومثل رده على القائل بعدم الكفارة لمن فاته صيام رمضان في اعتماده أصل البراءة، قائلا (إن أصالة براءة الذمة لا يصار إليها مع وجود المزيل وهو ما
تقدم من الأحاديث). غير أن المؤلف هنا لا يحق له إلغاء " الأصل " الذي اعتمده المخالف " وهو ابن إدريس " حيث لم يعتمد هذا الفقيه الأخبار التي أوردها المؤلف بل
اعتبرها " ظنية " مما سوغ له الرجوع إلى " الأصل ". وبغض النظر عن ذلك، فإن المؤلف
انطلاقا من هذا المبدأ نجده يعتمد " الأصل " بمختلف أقسامه ومستوياته عند فقدان
الدليل، مثل ذهابه إلى عدم طهارة المياه بعد زوال تغير ها بالنجاسة، قائلا: (ولأنها نجسة
قبل الزوال فيستصحب الحكم) ومثل ذهابه إلى عدم تكرر الكفارة لمن أخر قضاء صومه
لسنتين قائلا: (لأن الأصل: براءة الذمة).
فالمؤلف حينما اعتمد الاستصحاب والبراءة في النموذجين السابقين إنما اعتمدهما
بناءا على فقدان النص، كما أنه حينما رد المخالف على اعتماده دليلي الاستصحاب
والبراءة وغيرهما، إنما كان رده نابعا من وجود النص. وهذا يعني انتفاء " الأصل " في
حالة وجود النص، لكن يبدو أن المؤلف ينطلق من قناعات خاصة " ومثله الكثير من
فقهائنا قديما وحديثا " بالنسبة إلى اعتماده " الأصل " في حالة وجود النص أيضا بالرغم من
كونه ينكر على الآخرين مثل هذا الاعتماد، كما لحظنا.
فالملاحظ في ممارساته أنه يعتمد " الأصل " إلى جانب " النص " - في حالة توافق
الدليلين: " النص والأصل " كما لو أضاف إلى النص " أصلا "، وهذا من نحو ذهابه إلى
كلمة المقدم 59

عدم نجاسة المذي حيث قدم نصوصا على الطهارة ثم قال: (ولأن الأصل الطهارة
فتستصحب إلى أن يقوم دليل المنافي) ومثل ذهابه إلى عدم نجاسة " ألقي " فيما أورد
النص أولا، ثم عقب قائلا: (ولأنه طاهر قبل الاستحالة فيستصحب).
وما دام المؤلف يحرص على عرض أكثر من دليل كما سنرى لاحقا، حينئذ فإن المسوغ
لتقديم " الأصل " إضافة إلى النص يتناسب مع المنهج المذكور - وإن كنا نتحفظ في قيمة
الأصل مقابل النص - فمع توفر النصوص الكثيرة الدالة على عدم نجاسة المذي، تنتفي
مشروعيته " الأصل " الذي أورده المؤلف، إلا في حالة عدم قناعة المخالف بالنصوص
التي استدل بها.
ومما تجدر ملاحظته هنا أن المؤلف يقدم ما هو " أصل " على النص في غالبية
ممارساته بحيث يعرض أولا " الأصل " ثم يردفه بالنص، وهذا من نحو ذهابه إلى عدم
نجاسة عرق الجنب حيث قال مستدلا: (لنا: أن الأصل الطهارة، فتستصحب، وما رواه
الشيخ في الصحيح. إلخ).
ومن نحو ذهابه إلى عدم جواز شهادة المرأة في الهلال، حيث قال: (لنا: الأصل براءة
الذمة وعدم التكليف بالصوم عند شهادتهن، وما تقدم في الحديث عن علي " ع ".) ففي
هذه النماذج وسواها، يقدم المؤلف " الأصل " أولا ثم يدعمه بالنص. لكن لا فاعلية
لمثل هذا التقديم، لبداهة أن النص هو المحرز لاكتشاف الحكم، فكيف يقدم عليه ما هو
غير محرز؟! (10)
وأيضا، ثمة مسوغ آخر يمكن التسليم به، وهو ما إذا كان المؤلف في صدد تقديم دليل
يتوافق مع مبادئ " العامة " مثلا، حينئذ يكون تقديم " الأصل " متجانسا مع المنهج
المقارن. أما في حالة العكس - كما هو ملاحظ مثلا في تعامل المؤلف مع فقهاء الخاصة
الذين أورد وجهات نظرهم حيال طهارة أو نجاسة عرق الجنب، ثم استدل ب‌ " الأصل "



[10] إلا أن يقال: إن هذا ليس من باب التقديم، بل من باب أنه القاعدة والأصل التي يرجع إليها عند عدم
تمامية الأدلة.
كلمة المقدم 60

أولا ثم أورد النصوص، كما لحظنا - في مثل هذه الحالة تفتقد الفاعلية لأمثلة هذا التقديم.
المهم، أن تعامل المؤلف مع " الأصل " يقترن حينا بما هو غير ضروري، وحينا آخر يقترن بما هو
مسوغ منهجيا، كما هو الأمر بالنسبة إلى عدم حجية النص لديه، كما لو كان الخبر ضعيفا
أو كان حيال خبرين متعارضين حيث يسقطهما ويتمسك ب‌ " الأصل " ويمكن الاستشهاد
في الحالة الأولى " وهي: سقوط الخبر لضعفه " بممارسته (11).
تعدد الأدلة:
من الظواهر الملحوظة في ممارسات المؤلف، هي اللجوء إلى أكثر من دليل واحد في
تحريره للمسألة المبحوث عنها. طبيعيا، ثمة مواقف تفرض تعدد الأدلة: مثل الكتاب
ثم النصوص الحديثية مضافا إلى فعل المعصوم " ع " وتقريره، حيث أن حشدها جميعا يعمق من القناعة بصحة الاستدلال، فمثلا في تدليله على عدم انفعال الماء الجاري بالنجاسة
كان من الممكن أن يكتفي بدليل من السنة هو قوله " ع " (لا بأس بأن يبول في الماء
الجاري) إلا أنه أورد ثلاثة أدلة أخرى رئيسة وثانوية هي: (ولأن الجاري قاهر
للنجاسة. ولأن الأصل الطاهرة، فتستصحب. ولأنه إجماع) حيث أورد دليلا رئيسا
هو " الإجماع " ثم أورد دليلا ثانويا هو " الأصل " كما أورد دليلا استقرائيا مستخلصا من
نصوص أخرى هو: كونه قاهر. مع أن واحد منها كاف في التدليل. لكن كما
قلنا - يظل تعدد مثل هذه الأدلة له ما يسوغه في عملية الإقناع.
كما أن منهج المقارنة يفرض تنوع الأدلة حسب المعايير التي ينبغي الركون إليها بالنسبة
لأطراف المقارنة، سواء أكانوا من العامة أو الخاصة، ما دام الفقهاء داخل المذهب الواحد



[11] إن التحقيق وإن كان إنه لا مجرى للأصل ولا مجال له مع النص المعتبر السند، لكونه واردا على الأصل - أو
حاكما على بعض المباني - إلا أنه يرى كثيرا في كتب العلماء ممن تقدم على الشيخ الأعظم الاستدلال بالأصل
وبالنص الموافق له في عرض واحد - والمؤلف " قدس سره " لا يخرج عن هذا العموم.
وأما مسألة تقدم ذكر الأصل على النصل، فيمكن توجيه بأن الأصل لما كان موضوعه عدم العلم وهو أمر متقدم
بالطبع على العلم الحاصل من النص، فلذلك يقدم عليه في الذكر.
كلمة المقدم 61

يتمايزون فيما بينهم بالنسبة للمباني التي يعتمدونها. بكل أولئك يفسر لنا مشروعية تعدد
الأدلة.
والحق، أننا لا نجدنا بحاجة إلى الاستشهاد بنماذج في هذا الصدد، حيث أن وقوفنا
على منهجه المقارن والاستدلالي أبرز لنا طبيعة التعدد أو التنوع في كتبهم الاستدلالية للأدلة
التي يعتمدها المؤلف، فيما تفصح مستوياتها عن مدى الثراء والعمق والجدية والسعة
العلمية. والمهم هو: أن حرص المؤلف على تعدد الأدلة ما دام نابعا من كونه يقوم بعملية
مقارنة - من جانب، وعرض الأدلة بما يحقق الإقناع للقارئ من جانب آخر - فإن طبيعة
المناقشة أو البرهنة العلمية - من جانب ثالث، تفرض عليه أن يعتمد " تعدد الأدلة ": حتى
لو خضعت لما هو " محتمل " أو " ممكن " من الأدلة، ما دام الهدف هو: " إلزام " المخالف
و " إقناعه " بصواب ما يذهب إليه المؤلف، وبخطأ ما يذهب إليه المخالف. فمثلا، عند
رده لرواية خاصة تحدد عدم انفعال الماء إذا كان قدر قلتين، يرده قائلا: (بأنه مرسل، ولأنه
مناف لعمل الأصحاب، ولأنه ورد للتقية ولأنه يحتمل أن تكون القلة.) فالإرسال،
وعدم العمل به، ووروده تقية، أو احتمال بلوغ القلة قدر الكر. كل واحد من هذه
الفرضيات الأربع، كاف في الرد على الرواية، إلا أن المؤلف أخضع ذلك لافتراضات
أربعة " من حيث سند الرواية ودلالتها "، حتى " يلزم " المخالف بوجهة النظر، سليمة من
الإشكالات أيا كان نمطها.
التعامل مع السند:
ما تقدم، يمثل تعامل المؤلف مع الدلالة.
أما الآن، فنعرض لتعامله مع " السند " في كتابه " المنتهى ".
سلفا، ينبغي التأكيد على حقيقة ملحوظة في منهج المؤلف بالنسبة إلى تعامله مع
السند، وهي: أنه يرتب أثرا على الرواية من حيث " اعتبارها " أو عدمه. وهو مبدأ عام في
ممارساته، حيث يظل مثل هذا التعامل أمرا له أهميته العملية دون أدنى شك، لبداهة أن
تحقيق النص وتصحيح نسبته إلى قائله، يظل واحدا من أهم معالم " المنهج " التأريخي " في
كلمة المقدم 62

البحوث القديمة والمعاصرة: بخاصة إذا كان النص المبحوث عنه ينتسب إلى " الموروث "
الممتد إلى أزمنة قديمة. لا شك أن البحث الفقهي سبق البحوث العلمية الأخرى في
منهجه (12) التأريخي الذي تبلورت معالمه في أزمنتنا الحديثة. والمهم أيضا أن " العلامة " أعار
اهتماما أكثر من سواه بالنسبة إلى تصحيح النص " من حيث صدوره " حتى أنه - كما يشير
مؤرخوه - حرص على تصنيف الأحاديث إلى أقسامها المعروفة (الصحيح، الحسن،.
إلخ) مما يكشف ذلك عن مدى اهتمامه بهذا الجانب، حيث ينبغي لنا أن نثمنه كل
التثمين، ما دام الحكم الشرعي يتوقف على مدى صحة النص وعدمها - كما هو واضح.
وانطلاقا من هذه الحقيقة نجد المؤلف يرتب الأثر على هذا الجانب، فيقبل الرواية
المستجمعة لشرائط الصحة، ويرفض الرواية الفاقدة للشروط الذكورة، بحيث يرتب على
ذلك أثرا في استخلاص الحكم الشرعي. ففي معالجته - على سبيل الاستشهاد - لقضية
المسافر في شهر رمضان " من حيث تقييد إفطاره بتبييت النية ليلا أو عدمه " رفض هذا
القيد، وأسقط جميع الروايات المقيدة، قائلا:
(الجواب عن الحديث الأول: إن في طريقه. وهو ضعيف. والحديث الثاني في
طريقة ابن فضال، وهو ضعيف. وعن الثالث في طريقه ابن فضال، وهو ضعيف والرابع
مرسل. إلخ) حيث رتب على هذا الرفض للروايات حكما شرعيا هو: إن المعيار هو
السفر قبل الزوال وبعده، حيث يفطر إذا كان السفر قبل الزوال، ويتم إذا كان بعده.
بيد أن هذا المبدأ العام يظل خاضعا للاستثناء، شأنه شأن سائر المبادئ أو القوانين
الخاضعة للاستثناءات، إذ أن لكل قاعدة استثناءا، كما هو واضح. لذلك نجده - في
سياقات خاصة - يعمل بالخبر الضعيف، وبالمقابل قد يرفض ما هو صحيح في حالة
معارضته بمثله، فيسقطهما ويرجع إلى " الأصل " أو في حالة معارضته للقرآن الكريم مثلا،
أو في حالة ندرته قبالة ما هو مشهور، أو في حالة عدم عمل الأصحاب به. إلخ).
أما عمله بالخبر الضعيف، فيأخذ مستويا متنوعة، منها:



[12] مضافا إلى أن إثبات الحكم الشرعي وإسناده إلى الشارع لا يجوز قطعا إلا بعد اعتبار سند النص، وهو أمر
واضح منصوص عليه في كتب الأصحاب.
كلمة المقدم 63

عمل الأصحاب:
وهذا المبدأ - وإن كنا نتحفظ في أهميته التي يؤكدها كثير من الفقهاء - يظل واحدا من
المبادىء التي يعتمدها " العلامة " في ممارساته، بصفة أن عمل القدماء بالخبر الضعيف
يكشف عن وجود قرائن على صحته، ما دامت البيئة التي يحياها القدماء تساعد على كشف
مثل تلكم القرائن المحتفة به. والمهم، أن المؤلف يرتب أثرا على هذا المبدأ وإن كان في
نماذج من ممارساته يخالف المبدأ المذكور، كما لحظنا.
وأيا كان، بمقدورنا أن نستشهد بنماذج من ممارساته في هذا الميدان. وهذا من
نحو عمله بمرسلة ابن أبي عمير الواردة في تحديد الكر - وزنا، وبرواية أبي بصير - وفي طريقها
راو واقفي - الواردة في تحديد الكر: مساحة، حيث عقب على الأولى بقوله: (عمل عليها
الأصحاب)، وحيث عقب على الأخرى بقوله: (وهذه الرواية عمل عليها أكثر
الأصحاب). ومن نحو تعقيبه على روايتي عمار وسماعة الواردتين في إراقة الإناءين
المشتبه أحدهما بالنجاسة، قائلا: (وسماعة وعمار وإن كانا ضعيفين، إلا أن الأصحاب
تلقت هذين الحديثين بالقبول). ومنها:
تصحيح الأصحاب: من الاستثناءات للعمل بالخبر الضعيف لدى المؤلف هو: العمل بما أجمع الأصحاب
على تصحيح ما يرويه نفر خاص من الرواة، من أمثال مراسيل ابن أبي عمير وسواه، حيث
عمل المؤلف بمراسيل هذا الأخير، من نحو ذهابه إلى عدم جواز بيع العجين النجس،
مستدلا بمرسلة ابن أبي عمير القائلة بأنه: (يدفن ولا يباع). كما أنه قبل مراسيله بشكل
عام، حينما علق مرسلة أخرى تتحدث عن العجين النجس، بأنه يطهر بالنار، قائلا:
(وإن كانت مراسيل ابن أبي عمير معمولة بها، إلا أنها معارضة ب‌ " الأصل " فلا تكون
مقبولة). ومنها:
كلمة المقدم 64

مناسبة المذهب:
ومن الاستثناءات لدى المؤلف في العمل بالخبر الضعيف هو: مناسبته للمذهب أو
للروايات الصحيحة، وهذا مثل تعليقه على روايتين تتحدثان عن طهارة الأسئار للسباع
وغيرها - وفي طريقهما واقفي وفطحي - حيث قال: (وحديث أبي بصير وعمار - وإن كانا
ضعيفين، لأن في الأول علي بن أبي حمزة، وهو واقفي، وعمار، وهو فطحي - إلا أنه
مناسب للمذهب).
والحق، أن العمل بالخبر لا ضعيف من حيث مناسبته للمذهب، لا يكتسب صفة
" عملية " إلا في حالة فقدان النصوص المعتبرة، أما مع وجود النصوص المعتبرة فلا يزيد عن
كونه قد " تأيد " بها من حيث مجانسته لها، دون أن يأخذ صفة استقلالية، لذلك يتعذر
القول بأن المؤلف قد عمل بالخبرين المذكورين، لأن العمل أساسا قد تم من خلال
النصوص المعتبرة التي جاء هذان الخبران في سياقهما، كما قو واضح. وهذا على العكس
مما لو اكتسب الخبر الضعيف صفة استقلالية بحيث يصح أن يعتمده المؤلف في حالة
فقدان النصوص المعتبرة " من خلال مناسبته للمذهب " وهذا من نحو عمله بالرواية الذاهبة
إلى أن الصائم يقضي صومه في حالة إفطاره قبل المغرب لتوهم الظلمة ونحوها، حيث عقب
المؤلف على ذلك قائلا: (وحديثنا - وإن كان يرويه محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن
عبد الرحمان، وقد توقف ابن بابويه فيما يرويه محمد بن عيسى عن يونس - إلا أنه اعتضد
بأنه تناول ما ينافي الصوم عامدا.) فمناسبة هذا الخبر للمذهب تتجسد في كونه قد
تجانس مع الدليل القائل بأن تناول ما ينافي الصوم يستلزم إفساده، ولذلك جاء العمل بهذا
الخبر الضعيف مقرونا بالأهمية من حيث تجانسه مع دليل عقلي على العكس من الحالة
السابقة التي جاء فيها الخبران الضعيفان في سياق الأخبار المعتبرة، حيث لا فاعلية
لمفهوم " المناسبة للمذهب " فيهما، ما دام النص المعتبر هو الدليل، وليس الدليل العقلي أو
الاستقرائي، كما قلنا.
كلمة المقدم 65

تأييد وتقوية:
وهذا النمط من العمل بالخبر الضعيف، سبق أن تحدثنا عنه، وقلنا في حينه: إن إيراد
الخبر الضعيف في سياق الأخبار المعتبرة يكسب الضعيف قوة، وليس العكس، ولذلك
لا ضرورة لهذا النمط من العمل بالضعيف، طالما لا يترك أثره على عملية الاستدلال
حيث إن الضعيف يكتسب قيمته الاستدلالية في حالة انفراده، كما هو بين.
إلزام المخالف:
لعل العمل بالضعيف لدى المؤلف - في حالة إيراده بمثابة " إلزام " للمخالف - يظل
عرضة لإثارة أكثر من إشكال حيال هذا التعامل. وهذا التعامل يأخذ لدى المؤلف أكثر
من أسلوب. فهو حينا يعمل به في سياق عرض أدلته الشخصية، وحينا آخر يعمل به في
سياق أدلة المخالف والرد عليها.
أما العمل في صعيد عرض الأدلة المخالفة، فأمر يحمل مسوغاته دون أدنى شك، فما
دام المخالف مقتنعا بالخبر الضعيف، فحينئذ يجئ إلزامه بالخبر المذكور مناسبا للموقف.
وحتى في صعيد عرض الأدلة الشخصية يكون العمل بالضعيف مشروعا في حالة كونه
مرتبطا بروايات " العامة " ما دام هدف المؤلف " إلزامهم " بوجهة نظره التي يلتمس لها أدلة
معززة بروايات " الجمهور ".
أما في حالة كونه مرتبطا بروايات " الخاصة " فإن المسوغ للعمل به ينحصر في حالة
الذي يناقشه كون الفقيه المؤلف مقتنعا بحجية هذه الرواية الضعيفة أو تلك، كما
قلنا، وخارجا عن ذلك، لا نجد مسوغا للعمل بالخبر الضعيف. لذلك، فإن المؤلف
يتعامل بصورة ذكية جدا في كثير من ممارساته القائمة على مناقشة الآخرين، فهو يورد
الأدلة الروائية المعتبرة أولا " وهذه هي المرحلة المعبرة عن وجهة نظره التي هي حجة بينه وبين الله
تعالى " وبعد ذلك يورد الخبر الضعيف " إلزاما " لمن يناقشه. فمثلا، لحظنا أن المؤلف قد
أسقط جميع الروايات الواردة بالنسبة إلى تبييت النية لمن يسافر في رمضان، لكنه - مع.
كلمة المقدم 66

ذلك، لأجل الإلزام - رتب عليها أثرا، فحملها على أكثر من محمل، مثل قوله عن أحد
الأخبار الضعيفة: (وهو ضعيف، ومحمول على من سافر بعد الزوال) عن آخر: (وهو
ضعيف: ومع ذلك، يحتمل التأويل). وهكذا مع سائر روايات المسألة المشار إليها،
حيث أولها بما لا يتنافى مع وجهة نظره الذاهبة إلى أن ميزان الإفطار هو: السفر قبل الزوال
وليس تبييت النية.
ويلاحظ هنا: - * إسقاط المؤلف حينا: الرواية ثم العمل بها حينا آخر، حيث يصرح في الحالة
الأولى بسبب ذلك، وهو ضعف الراوي كما لو كان فطحيا أو واقفيا أو غيرهما من
أمثال سماعة وعمار وابن فضال وابن بكير وسواهم. ولكنه - وفي الحالة الثانية - يصرح بأن
الراوي " ثقة ": مع أن الراوي هو نفسه في الحالتين. أي: إنه بسبب من كون أولئك
الرواة قد تأرجح القول في " وثاقتهم وعدمها " حيث وثقهم البعض، وقدح فيهم بعض آخر،
حينئذ نجده عند التأييد لوجهة نظره يصرح بوثاقتهم من قبل أهل التعديل والحرج " مع أنه في
كتابه الرجالي المعروف يحسم الموقف حينا; فيميل إلى الترجيح بوثاقتهم، ويتردد بالنسبة
إلى آخرين ". وأما في حالة أخرى نجده يقدح بهم، وهذا ما يمكن ملاحظته - على
سبيل الاستشهاد - بالنسبة إلى " ابن فضال "، حيث نجده - في ذهابه إلى عدم إجزاء الغسل
عن الوضوء - يسقط رواية ابن فضال القاضية بالأجزاء، قائلا بأنه " فطحي "، كذلك
بالنسبة لإسقاطه روايتين لحظناهما عند حديثنا عن روايات تبييت النية في سفر رمضان،
حيث أسقطهما لمكان ابن فضال فيهما. ولكنه بالنسبة لحكم الحائض المبتدئة، مثلا
يعلق على رواية في طريقها ابن فضال نفسه، قائلا: (وهو فطحي، إلا أن الأصحاب
شهدوا له بالثقة والصدق)، بل نجده في إيراده لرواية أخرى لابن فضال تتعلق بوجوب
الغسل في صحة الصوم بالنسبة إلى الحائض، يستشهد بقول " النجاشي " عن ابن فضال:
(فقيه أصحابنا بالكوفة، ووجههم، وثقتهم، وعارفهم بالحديث. إلخ) والأمر كذلك
بالنسبة إلى رواة آخرين مثل عمر وإسحاق و.. حيث يسقط رواياتهم " عند الرد "
ويضفي عليهم طابع " الوثاقة " عندما يعزز برواياتهم وجهة نظره، مشيرا إلى أن الأصحاب
كلمة المقدم 67

شهدوا بالثقة لهذا الراوي أو ذاك.
إنه من الممكن أن نقول المؤلف حينما سكت عن عمار، أو سماعة، أو ابن
فضال، أو غيرهم: فلأن مناقشيه يعتمدون رواياتهم مثلا، وأنه لا يعتمدهم في حالة تقديمه
لأدلته الخاصة، لكن حينما يؤكد على أن الأصحاب شهدوا لهم بالثقة، حينئذ كيف يسوغ
له أن يرفض رواياتهم التي لا تتسق مع وجهة نظره، وبكلمة جديدة: إن المؤلف إما أن
يكون مقتنعا بوثاقتهم - وهذا هو الصحيح، بدليل أنه وثقهم كما لحظنا في النماذج
السابقة، فضلا عما أوضحه أيضا في كتابه الرجالي - وإما أن يقتنع بعدم وثاقتهم، فحينئذ
لا معنى للاعتماد على رواياتهم إلا في حالة " الإلزام " وهذا ما لا ينطبق على حالة الرواة
المشار إليهم.
طبيعيا، لو كان المؤلف مقتنعا بعدم وثاقتهم - كما هو الحال بالنسبة إلى راو مثل أحمد
بن هلال مثلا، فحينئذ عندما يسكت عن الطن به، نفسر ذلك بأنه يستهدف " إلزام "
المخالف بروايته كما حدث بالنسبة إلى استدلاله على مطهرية المستعمل في رفع الحدث
الأصغر. وعند ما " يطعن " بالرواية نفسها - كما حدث بالنسبة إلى استدلاله على مطهرية
المستعمل في رفع الحدث الأكبر، حيث نفت الرواية ذلك - حينئذ نفسر موقفه بأن قناعته
الحقيقة بعدم وثاقة الراوي المذكور تفرض عليه ذلك، وأن عدم طعنه إنما جاء " إلزاما
للمخالف فحسب. أما في حالة كونه قد اقتنع بوثاقة الراوي - كما هو الحال بالنسبة
لبعض الفطحيين والواقفيين - حينئذ فإن رفض رواياتهم يظل محل تساؤل
* * *
العمل أولى من الطرح:
من الموارد التي لوحظ فيها أن المؤلف يعمل بالخبر الضعيف فيها، هو: ذهابه إلى أن
العمل بالرواية أولى من طرحها - وقد لاحظنا ذلك بشكل عام في حقل -. أما ما يرتبط
ب‌ " الضعيف " من الروايات، فإن العمل بها، يظل نادرا. وهذا من نحو ممارسته الذاهبة
إلى إمكان العمل برواية سبق أن رفضها عندما استدل على عدم الاعتماد في ثبوت رمضان
كلمة المقدم 68

المبارك - في حالة غيمومة الهلال - على الرواية القائلة بأن ينظر إلى اليوم الذي كان الصوم فيه
من العام الماضي، وعد خمسة أيام منه، ثم الصوم في اليوم الخامس. هذه الرواية التي
رفضها في هذا المورد بسبب ضعفها - كما صرح بذلك - قبلها المؤلف في مورد آخر هو: في حالة
ما إذا غامت الأهلة جميعا، حيث علق قائلا:
(فالأقرب: الاعتبار برواية الخمسة.
لنا: أن العادة قاضية متواترة على نقصان بعض الشهور في السنة بعدد الخمس أو أزيد أو
أنقص، فيحمل على الأغلب للرواية الدالة على الخمسة، فإنها معتبرة هاهنا، وإلا لزم
إسقاطها بالكلية، إذ لا يعمل بها في غير هذه الصورة).
المؤلف ذكر روايتين عن الخمسة ورماهما بالإرسال والضعف حيث رفضهما في
غيمومة الهلال. وفي مورد غيمومة الأهلة جميعا، كما أشرنا. والملاحظ هنا جهتان:
إما عدهما معتبرتين من حيث السند، أو من حيث الدلالة، فإذا سقطتا سندا فلا مسوغ
للعمل بهما في بعض الموارد دون غيرها. وإذا لوحظت دلالتهما، فيمكن العمل بهما كما
أشار المؤلف. بيد أن رفضهما في غيمومة رمضان المبارك - بسبب من الضعف والإرسال - لا
يتناسب مع اعتبار هما في غيمومة (13) الشهور.
العمل بالضعيف مطلقا:
بالرغم من أن غالبية ممارسات المؤلف تقوم على رفض العمل بالرواية الضعيفة - كما لحظنا،
عدا الموارد الاستثنائية المتقدمة، إلا أننا نجده حينا يعمل بالخبر الضعيف
مطلقا، دون أن
يعلل ذلك. والتعامل مع الخبر الضعيف أحيانا، ينطوي على تقدير صائب للموقف، دون
أدنى شك، فما دام الراوي " المطعون فيه " لا يعني أنه " كاذب " في الحالات جميعها، وما
دام خبره - من جانب آخر - قد يتوافق مع الاحتياط " مثلا، أو غير معارض بخبر آخر،
مضافا إلى خضوع البعض منها لقاعدة ما يسمى ب‌ " التسامح " في غير موارد الوجوب أو الحرمة،



[13] نعم يمكن أن يقال: إنه رحمه الله حين رأى عمل المشهور بالرواية في تلك المسألة عده معتبرا بخلاف المسألة
السابقة.
كلمة المقدم 69

حينئذ: فإن العمل بها يحمل مسوغاته، بخاصة إذا اقترنت بالقناعة " وجدانيا " - وإن
كانت " علميا " مرفوضة من حيث الخضوع لقواعد الحجية، إلا أن " الوجدان " وملاحظة
القرائن المحتفة بها، تحمل الفقيه على الظن المعتد بصحة مثل هذه الروايات. والمهم، أن
المؤلف - في أمثلة هذه المواقف - يعمل بالخبر الضعيف، كما قلنا، وهذا من نحو عمله
بالروايات المانعة من أخذ الرشاء في الحكم مثلا، حيث استشهد بالروايات الضعيفة في
ذلك. ومن نحو عمله برواية ضعيفة تحرم الحج بمال غير حلال، فيما يعززها حكم " العقل "
أو القاعدة الشرعية بذلك. وحتى في حالة عدم تأييدها بحكم عقلي أو بعدم خلاف بين
الفقهاء، حيث إنه في حالة عدم الخلاف من الممكن أن يكون العمل بالضعيف مستندا إلى عمل
الأصحاب، يظل العمل بالضعيف أمرا ملحوظا لدى المؤلف، مثل ذهابه (14) إلى
استحباب المقام على تجارة معينة إذا ربح فيها، واستحباب التحول عنها إذا خسر فيها،
واستحباب قلة الربح. إلخ، حيث اعتمد المؤلف على روايات ضعيفة في المسائل المشار إليها.
وهذا فيما يتصل بمطلق التعامل مع الروايات الضعيفة. وفي حالة التضارب بين
خبرين ضعيفين، نجد أن المؤلف يعمل بهما أيضا ما دام الخبران المتضاربان لم
" يعارضهما " ما هو معتبر من الروايات. وهذا من نحو عمله بروايتين: إحداهما: مرسلة،
والأخرى: غير معتبرة، لمكان " السكوني " فيها، حيث جمع بينهما في حديثه عن صفق
الوجه بالماء أو صبه على نحو التفريق، مستندا إلى وجهة نظر الفقهاء، قائلا: (وجمع
بينهما بأن الأول محمول على إباحته ولا يجب خلافه والثاني محمول على أولوية غيره، فلا
ينافي). وحتى في حالة كون أحدهما ضعيفا والآخر معتبرا، فإن المؤلف يعمل بهما في
صعيد التضارب أيضا، وهذا من نحو جمعه بين روايات بعضها معتبر وبعضها غير معتبر،
تمنع الدائن من أخذ حقه إذا أودع المدين لديه مالا، وبين روايات ضعيفة تبيح ذلك (15)،



[14] يحتمل فيها الاستناد إلى قاعدة التسامح في أدلة السنن، فإنه قد قال بها جمع من الأصحاب.
[15] لعل السر فيه أن عمومات التقاص وهي أخبار معتبرة معمول بها تقتضي جوازه مطلقا، والأدلة الواردة في
لزوم الاقتناع بحلف المنكر توجب تخصيصها، فإطلاق الروايات - الموصوفة بالمانعة - حملها على مورد حلف المنكر عند
القاضي، والعمدة أن المورد المذكور يحتمل فيه أن المهم فيه عموم أخبار المقاصة، لا غير هذه الأخبار الضعاف.
كلمة المقدم 70

حيث جمع بين الطائفتين بحمل الروايات المانعة على ما لو أنكر المدين، فاستحلفه على ذلك
فحلف.
بيد أن الملاحظ أن سكوت المؤلف عن خدش الرواية، يتضخم بنحو ملحوظ في أبواب
التجارة. ولعل ذلك يتساوق مع ما قلنا - في مقدمة هذه الصفحات - من أن المؤلف
يتخلى عن المنهج المفصل في الأبواب الأخيرة من الكتاب، لاحتمالات متنوعة، أشرنا
إليها في حينه.
التوقف أو التردد:
يظل استخلاص الحكم هو النتيجة النهائية لأية ممارسة فقهية، وإذا كانت الممارسة
تعنى بعرض الآراء والأدلة ومناقشتها والرد عليها، فلأنها مقدمات لا بد أن تقضي إلى
ما هو نهائي من الحكم. وهذا الاستخلاص للحكم يأخذ عند المؤلف: إما طابعا حاسما
لامكان فيه للافتراض أو التأرجح أو التوقف، وإما أن يخضع لافتراضات متنوعة تتطلبها
طبيعة مناقشة الآخرين، وهذان النمطان من استخلاص الحكم لحظناهما بوضوح لدى
المؤلف، فهو يفتي حاسما من خلال دليله الشخصي الذي يعدمه أولا ثم يفترض إمكان
خضوع هذا النص أو الدليل إلى حكم آخر كالاستحباب أو الكراهة. إلخ، لكن هناك
من الممارسات ما يقف المؤلف عندها متأرجحا بين هذا الحكم أو ذاك، ومن ثم يتوقف عن
إصدار الحكم. ولا شك أن كلا من التأرجح والتوقف له مسوغاته التي ينبغي أن نثمنها
لدى المؤلف ما دامت طبيعة الدليل لا تسمح له إلا بالتأرجح أو التوقف.
ويمكننا ملاحظة المستوى الأول من إصدار الحكم، أي: التأرجح، فمثلا في ممارسته
الذاهبة إلى جواز الاقتصار على جزء من السورة أو قراءة السورة كاملة قائلا: (ولو قيل فيه
روايتان، إحداهما: جواز الاقتصار على البعض، والأخرى: المنع، كان وجها، ويحمل،
المنع على كمال الفضيلة).
وسبب هذا التأرجح أن المؤلف استدل أولا على وجوب السورة كاملة، إلا أنه عرض
نصوصا معتبرة تجوز ذلك، مما اقتاده إلى التأرجح المذكور. كذلك في ممارسته الذاهبة إلى
كلمة المقدم 71

أن من استمر به المرض إلى رمضان آخر، لا قضاء عليه بل يتصدق مستدلا على ذلك بنصوص
لزرارة وابن مسلم وسواهما، لكنة نقل قولا لابن بابويه بوجوب القضاء حيث استند هذا
الأخير إلى عموم الآية: من كون مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) في شمولها لمن استمر
فيه المرض أو عدم استمرار، حيث عقب قائلا: (وقول ابن بابويه عندي قوي، لا يعارض
الآية التي استدل بها: الأحاديث المروية بطريق الآحاد). والتأرجح هنا واضح من
خلال ذهابه إلى عدم وجوب القضاء في استناده للنصوص المشار إليه " وقد استدل بها في
مسألة سابقة تتعلق بقضاء السنة الماضية دون أن يشير إلى أنها أخبار آحاد " ثم ذهابه إلى
" قوة " الرأي الذي ذهب إليه ابن بابويه، حيث يجسد هذان النمطان من الحكم تأرجحا
بينهما كما هو واضح. بيد أن ذهاب المؤلف إلى أن النصوص المشار إليها أخبار آحاد
مما يلفت النظر حقا، بصفة أنه عمل بهذه الأخبار من جانب، وبصفة أنها لا تتضارب
من الآية الكريمة من جانب آخر، بل إنها تفصل إجمالها أو تخصص عمومها، فلا مسوغ حينئذ
للقول بأنها تطرح، لمخالفتها الكتاب الكريم.
ويمكننا الاستشهاد بنموذج ثالث من ممارساته التي يرجح فيها أحد الجانبين إلا أنه
يتوقف في النهاية، ما نلحظه في ممارسته الذاهبة إلى عدم جواز " القران " بين سورتين في
الفريضة حيث استدل على ذلك بنصوص مانعة، وبالمقابل قدم أدلة المخالف التي تجوز
ذلك.
وبالرغم من أنه رد أدلة المخالف بكون أدلته الشخصية أصح سندا وأوفق للاحتياط،
إلا أنه في النهاية صرح بأنه (في هذه المسألة: من المترددين). كذلك - في نموذج رابع - في
ممارسته الذاهبة إلى عدم طهارة فضلات ما لا يؤكل لحمه، استند إلى جملة من النصوص
منها: رواية ابن سنان: (اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه) لكن بما أن هناك رواية
لأبي بصير تستثني عضوية " الطير " من ذلك (كل شئ يطير فلا بأس.) حينئذ عقب
قائلا: (والرواية مشكلة، وهي معارضة لرواية ابن سنان. إلا أن القائل يقول: إنها غير
مصرحة بالتنجيس، أقصى ما في الباب أنه أمر بالغسل منه، وهذا غير دال على النجاسة إلا من حيث المفهوم.).
كلمة المقدم 72

وجه تردده هو أن المؤلف قد استند إلى رواية ابن سنان في تنجيسها لفضلات ما لا
يؤكل لحمه، وهنا تردد في تصريحها بالتنجيس، مضافا إلى أن رواية أبي بصير الذاهبة إلى
عدم نجاسة عضوية الطير - كما هو رأي المؤلف - معارضة لرواية ابن سنان، لأن الالتزام
بأحدهما يلغي الآخر.
طبيعيا، يمكن أن تقيد رواية ابن سنان بالطير فتكون النتيجة: أن ما لا يؤكل لحمه
نجس إلا الطير. ومن الممكن أن تقيد رواية أبي بصير برواية ابن سنان فنكون النتيجة: أن
ما لا يو كل لحمه من الطير نجس. إلا أن الحمل الأخير لا وجه له، لاستلزامه " عبثية "
القيد، وإذا كنا نعرف بأن كلام المعصوم " ع " لا يمكن أن يتضمن قيدا عابثا، حينئذ
نستخلص بسهولة أن قيد " الطيران " له مدخلية في الحكم، وأن " الطير " مستثنى من
قاعدة: (ما لا يؤكل لحمه)، ومن هنا لا نرى وجها لتردد المؤلف في هذه المسألة. ويمكن
ملاحظة نمط آخر من التردد المقترن بالترجيح، يتمثل في الممارسة التالية:
(حكم الاستنشاق حكم المضمضة في ذلك، على تردد، لعدم النص).
فالمؤلف هنا يرجح أن يلحق الاستنشاق بالمضمضة من حيث عدم مفطريته إذا كان
في الوضوء - ولكن: نظرا لعدم وجود النص، يتردد في الإلحاق المذكور. كما هو واضح،
فالملاحظ في هذه النماذج - أن عدم " ظهور " النص من جانب أو فقدانه من جانب آخر،
دفع المؤلف إلى التردد في إصدار الحكم.
وأيا كان، فإن النماذج المتقدمة من تردد " العلالة " نابع من كونه يستند إلى أدلة
مرجحة في نظره، ولكنه يتوقف في النهاية من إصدار الحكم. لكن هناك نموذج من
الممارسات التي لا ترجيح فيها لأحد الأدلة، حيث يتكافأ الدليلان مما يحمله ذلك على
التردد أو التوقف في إصدار الحكم، وهذا من نحو ممارسته التالية:
(الصحيح الذي يخشى المرض بالصيام هل يباح له الفطر؟ فيه: تردد ينشأ من وجوب
الصوم بالعموم وسلامته عن معارضة المرض، ومن كون المرض إنما يبيح له الفطر لأجل
الضرر به، وهو حاصل هنا، لأن الخوف من تجدد المرض: في معنى الخوف من زيادته
وتطاوله). كذلك يمكن ملاحظة تردده النابع من تكافؤ الدليلين، في ممارسته الآتية:
كلمة المقدم 73

(لو فكر، ففي الإفساد تردد: ينشأ من قوله (ع) " عفي لأمتي الخطأ والنسيان وما
حدثت به أنفسها ما لم يعلم أو تعلم، ومن كونه متمكنا من فعله وتركه.) فالملاحظ في
هذه النماذج هو تكافؤ الأدلة التي تستاقه إلى التردد، في حين كانت النماذج التي سبقتها
مطبوعة بتردد يترجح فيها أحد الدليلين، ولكنه لا يصل إلى اليقين والظن الذي يسمح
للمؤلف بأن يحسم المسألة. وفي الحالين ثمة مسوغات تدفع المؤلف إلى أمثلة هذا التردد
الذي ينبغي تثمينه، دون أدنى شك.
* * *
إذا كان المؤلف في النماذج المتقدمة يتوقف عن إصدار الحكم، فهناك نمط من التعامل مع
" الحكم " يقوم على مجرد الافتراض في مشروعية الآراء المخالفة التي يتردد فيها أو يحسم
المسألة فيها على خلاف وجهة نظرهم. وهذا ما ندرجه ضمن عنوان:
الافتراضات والحكم:
هناك نمط من التعامل مع " استخلاص الحكم " قائم على مجرد الفرضية بصحة ما يحكم
به الآخرون، حيث يرتب المؤلف على هذا الافتراض آثارا شرعية.
طبيعيا، ثمة فارق بين فرضية تقوم على مجرد التسليم بما يقوله الآخرون، كما لو اقتنع
المؤلف بدليل خاص لديه، ولكنه حكم بحكم آخر لإلزام المخالف بفساد وجهة نظر
الأخير، حيث لحضنا أمثلة هذا المنحى في سياق رده على أدلة المخالفين، وبين فرضية تسلم
بوجهة نظر المخالف ثم ترتب عليه الأثر الشرعي، وهذا ما يتمثل في منهج خاص من
الاستدلال يقوم على عبارة " لو قلنا " بجواز أو حرمة هذا الشئ أو ذاك. إلخ، حيث لا يقتنع
المؤلف بالحكم المذكور، ولكنه يفرض إمكان صحته، فيتناوله بالدراسة مثل سائر المسائل
المطروحة. وهذا ما يمكن ملاحظته في ممارسات من نحو:
(إذا قلنا بجواز الاقتصار على بعض السورة فلا فرق بين أولها وآخرها وأوسطها.) ثم
يستدل على ذلك بروايات في هذا الصدد.
ومن نحو افتراضه الآتي: من الماء النجس المتمم كرا حيث حكم سابقا بعدم تطهره
كلمة المقدم 74

بإتمامه كرا: (لو قلنا بالطهارة، لم يشترط خلوه من نجاسة عينية. نعم، يشترط خلوه على
التغير).
ومن نحو افتراضه الآتي عن تحريم نقل الزكاة من بلد المالك إلى غيره حيث حكم
سابقا بجواز النقل، ولكنه ما دام قد نقل قولا بعدم الجواز، حينئذ فقد افترض ما يلي:
(لو قلنا بتحريم النقل - أي: نقل الزكاة إلى بلد آخر تجزي إذا وصلت إلى الفقراء) ثم
يستدرك على ذلك بقوله: (لنا: أنه دفع المالك إلى مستحقه فيخرج عن العهدة كما لو
أخرجها من بلده).
ففي النموذج الأول افترض المؤلف جواز الاقتصار على بعض السورة، مع أنه كان
" مترددا " فيها، كما لحظنا في نموذج أسبق من ممارساته، وفي النموذج الثاني والثالث
افترض طهارة المتمم كرا وتحريم نقل الزكاة إلى بلد آخر مع أنه لا يرى طهارة الأول ولا
تحريم الآخر. والمهم هو ملاحظة هذا المنحى من الاستلال من حيث مسوغاته العلمية.
وفي تصورنا، ثمة مسوغ علمي من النمط الأول من الممارسة، وهو النمط القائم على تردد
في الحكم، فبما أنه لم يحسم المسألة، حينئذ فإن افتراضه الذاهب إلى جواز الاقتصار على
أول السورة أو وسطها أو آخرها يتناسب مع تردده طالما يظل هناك احتمال بجواز الاقتصار
على بعض السورة يتكافأ مع الاحتمال الآخر، وهو عدم الجواز، حيث يترتب - مع
احتمال الجواز في تبعيض السورة - إمكانية أن يكون التبعيض في أولها وسطها أو آخرها.
كما أن الاستدلال على إمكانية ذلك يتناسب مع الاحتمال المذكور. لكن عندما نتجه
إلى النمط الآخر من عرض المسألة التي لم يقتنع بها المؤلف، حينئذ يثار السؤال عن
ضرورة أن يستدل المؤلف على إتمام المنجس كرا ما دام مقتنعا بأن الماء القليل لا يطهر بإتمامه
كرا سواء أكان مصحوبا بالنجاسة العينية أو غير مصحوب.
* * *
نعم، في النموذج الثالث من الممارسة يمكن أن نجد مسوغا للطرح وهو نقل الزكاة إلى
بلد غير المالك، فبالرغم من أن المؤلف يرى جواز النقل، إلا أن عرضه للمسألة جاء في سياق
الأجزاء أو عدمه، حيث إنه مع القول بالتحريم حينئذ فإن المالك إذا دفعها فقد أبرأ ذمته
كلمة المقدم 75

وإن كان قد عمل محرما من حيث النقل، وهذا من نحو الصلاة في المكان المغصوب أو البيع
في يوم الجمعة عند النداء مثلا، حيث تترتب آثار الإبراء للذمة وتحقق الملكية بالرغم من
ممارسته مما هو محرم. لذلك، فإن المسوغ العملي - في النموذج الثالث - يظل فارضا فاعليته
في هذا الصعيد.
وهو أمر ينطوي على فائدتين في ميدان البحث، أولاهما: الفائدة العلمية المتمثلة
في رحابة صدر المؤلف لأن يفترض إمكانية الصواب لوجهة النظر المفترضة،
والأخرى: الفائدة المصحوبة بالامتاع العلمي، حيث أن تناول المسألة في شتى
صورها تحقق امتاعا علميا له إسهامه في إثراء تجربة القارئ وتحريك ذهنه على
المحاكمات العقلية، وهذا ما توفر عليه فقيهنا الكبير " العلامة " في عرضه الممتع لكثير
من افتراضاته التي تفصح عن إسهامه العلمي الضخم في هذا الميدان وفي سائر
الميادين التي طبعت شخصية " العلامة " بسمات فائقة جعلت منه شخصية علمية
متفردة في تأريخنا الفقهي الموروث والمعاصر.
عنصر التطوير الفقهي:
والآن، خارجا عن الملاحظات التي طرحناها في سياق تقويمنا لممارسات
" العلامة " وهي ملاحظات قد لا يوافقنا القراء عليها، بخاصة أن طبيعة الممارسة
الاستدلالية الشاملة التي لا تقتصر على صياغة الدليل العابر، تتطلب منهجا يقوم على
تثبيت وجهة النظر أو إلزام المخالف من الخاصة والعامة من خلال طرائق متنوعة، مثل:
افتراض صحة الرواية حينا، والطعن بها في موقع آخر، ومثل: الاستدلال على مسألة لم
يقتنع الفقهاء بها، ثم ترتيب الآثار عليها على نحو الافتراض، ومثل: تقديم الأصل على
الأمارة،. إلخ أولئك جميعا قد تفرضها طبيعة الممارسة الفقهية التي لم تقتصر على
فقيهنا الكبير، بل انسحبت على المتأخرين أيضا، بحيث أصبحت جزءا من الصناعة
الفقهية التي اكتسبت طابعا مشروعا. ولذلك، فإن إبداء الملاحظات على هذه
الصناعة لا يعني أنها تقلل من ضخامة وإحكام ومتانة العمارة الفقهية الضخمة التي
خطط لها " العلامة ".
كلمة المقدم 76

وهذا ما يدفعنا إلى القول - ونحن نختم حديثنا عن فقيهنا الكبير بأننا نواجه
فقهيا عملاقا قد انفرد بين السابقين عليه بكونه قد " طور " الممارسة الفقهية، و " جددها "
على المستويات جميعا، سواء أكان ذلك في صعيد الأداة الأصولية التي طرح مفرداتها
الضخمة في كتابه المخطوط: " نهاية الوصول إلى علم الأصول " حيث سلك فيه نفس
المنهج الفقهي المقارن من حيث تتبعه المدهش لآراء الأصوليين ومناقشتها والرد عليها
وإبداء وجهة نظر جديد حيالها، أو كان ذلك في صعيد " الأداة الرجالية والحديثية " حيث
اختط حيالها منحى فيه " الجدة " دون أدنى شك، أو كان ذلك في صعيد الممارسة
الفقهية بعامة: منهجا واستدلالا، حيث نلاحظ " الجدة أو التطوير " فيها يتجاوز طرح
" المبادئ إلى طرح " المنج " أيضا، وهو ما لحظناه خلال هذه السطور التي كتبناها عن
فقيهنا الفذ، حيث كانت " السعة " و " التنوع " و " العمق " و " الجدة " طوابع علمية
لهذا الفقهية لم يكد لسواه أن يتوفر عليها بنفس الحجم الذي لحظناه عند " العلامة "، فهو
كما سبقت الإشارة يرصد آلاف الآراء لمذاهب وتيارات وأشخاص، في كل
العصور، وفي كل الأمكنة، داخل المذهب وخارجه وهو يلتمس " الأدلة " لها وليس
مجرد رصدها، بما تستتبعها من منهجية جديدة بالنحو الذي يضفي على بحثه حيوية لافتة
للنظر تجعلك منبهرا ومندهشا حيال قابليته الفذة التي وهبها الله تعالى لفقيهنا الكبير، حتى
ليكاد " يتفرد " مع آخرين لا يتجاوزون عدد الأصابع في عصور التاريخ
الفقهي.
كلمة المقدم 77

كلمة القسم
كلمة القسم 79

كلمة القسم
النسخ المخطوطة المعتمدة في تحقيق الكتاب:
لما كان هدفنا في تحقيق الكتاب وهو إخراج نصف صحيحا مفهوما لا يشوبه إبهام، خاليا من
التعقيد والالتواء، بعيدا عن المظاهر الشكلية التي يقتصر عليها بعض المحققين في عملهم، فقد
اعتمدنا في عملنا هذا على تسع نسخ مخطوطة، هي كما يلي:
1 النسخة الموقوفة لخان باب مشار، المحفوظة في مكتبة الآستانة الرضوية المقدسة في مشهد،
تحت رقم 9548، وهي تشتمل على كتاب الطهارة فقط، جاء في آخرها: كتب آخر هذا الكتاب
على يد أقل خلق الله وأحوجهم إلى رحمة ربه الغني محمد بن محمد الجزائري، الساكن في بلدة
شيراز. وكان الفراق من كتابته في بلدة بغداد في شهر صفر، ختم بالخير والظفر سنة 1047. تقع
في 156 ورقة، تحتوي كل صفحة منها على 29 سطرا، بحجم 20 * 13 سم، وقد رمزنا لها في
الهامش بالحرف: " خ ".
2 النسخة المحفوظة في كتب الآستانة الرضوية المقدسة في مشهد، تحت رقم 10597، وهي
تشتمل على كتب: الطهارة، الصلاة، الزكاة، الخمس، وبعض من كتاب الصوم. جاء في آخر
كتاب الطهارة وفرغ من نسخة نسختها من نسخة الأصل العبد المذنب الراجي إلى رحمة الله تعالى
يوسف بن يعقوب طالقاني، وجاء في آخر كتاب صلاة الخوف: كتبه العبد الفقير إلى الله تعالى
محمد بن شاه منصور التبريزي. وذلك في سابع [و] عشرين من شهر شعبان المعظم من سنة ثلاث
وسبعين وتسعمائة. تقع في 397 ورقة تحتوي كل صفحة منها على 31 سطرا، بحجم
20 * 12 سم، وقد رمزنا لها في الهامش بالحرف: " ن ".
3 النسخة المحفوظة في مكتبة ملك الوطنية (كتابخانه ملى ملك) تحت رقم 1228، وهي
كلمة القسم 81

تشتمل على كتب: الطهارة، الصلاة، الزكاة، الخمس، وبعض من كتاب الصوم، كتبها: محمد هادي
ميرزا عرب شيرازي في يوم الثلاثاء الخامس من شهر شعبان المعظم: ولم يذكر سنة كتابتها. تقع
في 463 ورقة، كل صفحة منها تحتوي على 30 سطرا، بحجم 21 * 11 سم، وقد رمزنا لها في
هامش الكتاب بالحرف: " م ".
4 النسخة المحفوظة في مكتبة الآستانة الرضوية المقدسة في مشهد، تحت رقم 1012، وهي
تشتمل على كتب: الصلاة، الزكاة، الخمس، وبعض من كتاب الصوم، كتبها: محمد بن
شمس بن علي بن حسن بن أبي الحسن بن جعفر بن الغساني. جاء في آخر كتاب الصلاة: وقع
الفراغ من نسخها عصرية يوم الاثنين لخمس خلون من شهر ربيع الأول من شهور أحد وثمانين
وتسعمائة من الهجرة (على مهاجرها الصلاة والسلام والتحية والإكرام). تقع في 572 ورقة،
تحتوي كل صفحة منها على 23 سطرا، بحجم 22 * 13 سم، وقد رمزنا لها في الهامش بالحرف:
" غ ".
5 النسخة المحفوظة في مكتبة الآستانة الرضوية المقدسة في مشهد، تحت رقم 2850، وهي تشتمل على القسم الأخير من كتاب الصوم، وكتب: الحج، الجهاد، وبعض من كتاب التجارة،
قال في آخرها: وفرغ من نسخته (كذا) أقل عباد الله وأحوجهم إلى غفرانه، العبد الفقير، كثير
الخطايا والزلل: علي بن الحاج قوام الدين بن محمود العاقولي الليثي أصلا، النجفي مولدا، الحلي
منشأ. وذلك في غرة ذي القعدة سنة 982 هجرية (على مهاجرها أفضل الصلوات وأكمل
التحيات). تقع في 143 ورقة، تحتوي كل صفحة منها على 41 سطرا، بحجم 23 * 14 سم، وقد
رمزنا لها في الهامش بالحرف: " ع ".
6 النسخة المحفوظة في مكتبة مسجد جامع گوهر شاد في مشهد، تحت رقم 554، وهي
تشتمل على: البحث الثامن والتاسع من كتاب الصوم، وتمام كتاب الاعتكاف، والقسم الأكبر
من كتاب الحج إلى أواسط الصنف الثالث عشر: الصيد. جاء في آخر الفصل السادس في الحلق
والتقصير من كتاب الحج: وكان الفراغ من تسويده على يدي العبد الفقير إلى الله تعالى حسن بن
يوسف بن المطهر مصنف الكتاب في ثاني عشر ربيع الأول من سنة سبع وثمانين وستمائة، وفق
الله تعالى إتمام الكتاب بمنه وكرمه والحمد الله رب العالمين. ولم يذكر اسم ناسخها. تقع في 267
ورقة، بخط النسخ القديم، وصفحاتها مختلفة من حيث السطور، فصفحة فيها 16 سطرا، وأخرى
22 سطرا، بحجم 16 * 11 سم، وقد رمزنا لها في الهامش بالحرف: " ج ".
7 النسخة الموقوفة في مكتبة مسجد جامع گوهر شاد في مشهد تحت رقم 1326، وهي
كلمة القسم 82

تشتمل على بعض من كتاب الصلاة حيث تبدأ من المقصد الثامن في الخلل الواقع في الصلاة،
وكتاب الزكاة والخمس، وبعض من كتاب الصوم، إلى البحث الثامن في بقية أقسام الصوم. لم
يعلم اسم كاتبها ولا تأريخ كتابتها، حيث جاء في آخرها: تم الجزء الثالث من كتاب: منتهى
المطلب في تحقيق المذهب، والحمد لله وحده، ويتلوه في. وقد كتب في هامش الصفحة الأخيرة
بخط مغاير للأصل: من ممتلكات أفقر الطلبة إلى ربه المجيد محمد مكي بن محمد بن شمس الدين
بن الحسن بن زين الدين علي بن خير الدين من سلالة أبي عبد الله الشريف الشهيد ابن مكي بن
أحمد بن حامد المطلبي الحارثي الهمداني الخزرجي العاملي. ومكتوب فوق هذه العبارات بخط
أخضر بالفارسية: (خط نوه شهيد) أي: خط حفيد الشهيد، والنسخة مختومة في عدة أماكن منها
بمهر حفيد الشهيد وختمه، حيث جاء في الختم: من ولد الشريف أبي عبد الله الشهيد محمد بن
مكي العاملي. تقع في 310 ورقة، تحتوي كل صفحة منها على 19 سطرا، بحجم 16 * 10 سم،
وقد رمزنا لها في الهامش بالحرف: " ش ".
8 النسخة المحفوظة في مكتبة الآستانة الرضوية المقدسة في مشهد، تحت رقم 12314، وهي
تشتمل على كتب: الطهارة، الصلاة، الزكاة، الخمس، الصوم الحج، الجهاد وبعض من
كتاب التجارة جاء في آخر كتاب الطهارة: قد فرغ من كتابة هذا الجزء محمد حسين بن حاجي
حسين الرويدشتي من أعمال أصفهان. في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة
1066. تقع في 419 ورقة، تحتوي كل صفحة منها على 36 سطرا، بحجم 21 * 12 سم وقد رمزنا لها في الهامش بالحرف: " ق ". 9 النسخة المحفوظة عند السيد جعفر مير داماد، في طهران، وهي تشتمل على كتاب
الطهارة، جاء في آخرها، فرغ من نسخه وتعليقه الفقير إلى غفور ربه الغني علي بن محمد بن هلال،
صدر نهار السبت آخر يوم من صفر سنة خمسة وثمانين وتسعمائة هجرية نبوية. ثم جاء في هامش
آخرها: قد وقعت المقابلة لهذه النسخة الشريفة مع نسخة الأصل طابق النعل بالنعل. تقع في 298
ورقة، بخط النسخ القديم، تحتوي كل صفحة منها على 21 سطرا، بحجم 30 * 20 سم، وقد رمزنا
لها في الهامش بالحرف: " د ".
وحيث أننا عثرنا عليها متأخرا، أي: بعد طبع حروف الجزء الأول وترتيب فصوله وإخراجه
الفني، لذلك لم يكن لنا مجال لإثبات اختلافاتها في الهامش، إلا أننا قابلنا مع فصول هذا
الجزء بأجمعه، وأخذنا باختلافاتها مع بقية النسخ، وقد كانت مفيدة للغاية، وسيأتي تثبيت
اختلافاتها في الهامش عند تحقيق الأجزاء اللاحقة من كتاب الطهارة.
كلمة القسم 83

منهجية تحقيق الكتاب:
إن كتاب المنتهى هو من أجمع الكتب الفقهية المقارنة، وأضخمها في بابها، وأكثر جمعا،
وأغزرها علما، وأحسنها تفصيلا وتفريعا، وأجودها تقسيما وتنويعا. قد حوى جل أمهات المسائل
الخلافية في الفقه داخل المذهب وخارجه فكان حقيقا بأن يسمى: " منتهي المطلب. " وقد
أشار العلامة نفسه إلى أهميته وعظمته علميا في تقديمه له، وفي مواضع متعددة من بقية كتبه
الأخرى. كما وأشاد بفضله جمع كثير من علمائنا المتأخرين، وجعلوه في عداد أفضل من كتب في
هذا الباب على الإطلاق، لما جاء فيه من المقارنة العلمية، وروعة في الاستدلال
الفقهي.
ولما كان " المنتهى " بما يمثله من عطاء فقهي زاخر، وتراث علمي جم. وإخراجه محققا،
مصححا بالشكل الذي يتناسب ومستواه يحتاج إلى جهود جادة وطاقات مخلصة. كان أن سعى
الإخوة المحققون في قسم الفقه في مجمع البحوث الإسلامية بكل ما أوتوا من عزم وهمة إلى تفجير
طاقاتهم، وصب جهودهم بشكل جدي ومتواصل. من أجل إخراج هذا السفر الجليل بكيفية
تناسب محتواه العلمي، آخذين بنظر الاعتبار وعاملين وفق أحدث القواعد العلمية والفنية في موضوع تحقيق وتصحيح التراث الإسلامي الخالد.
فكان أن شمر هؤلاء بأجمعهم عن ساعد الجد وتوزعوا إلى ست لجان تحقيقية، كل حسب
اختصاصه العلمي والثقافي، كما يلي:
1 لجنة المقابلة، وعملها مقابلة النسخ المخطوطة الآنفة الذكر مع بعضا الآخر، وضبط
الاختلافات الواقعة بينها، وتثبيتها على حدة.
2 لجنة التخريجات، وعملها تخريج الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة الواردة
عن طريق الجمهور، والأحاديث والروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وكذا
تخريج الأقوال الفقهية التي أوردها المصنف واستدل بها أو ناقشها أثناء بحثه وخوضه في مسائل
الكتاب، وإرجاعها إلى مصادرها الأصلية، والإشارة إلى ذلك في الهامش.
3 لجنة الترجمة، وعملها ترجمة جميع الأعلام والرواة على اختلاف طبقاتهم ومذاهبهم
الوارد ذكرهم في الكتاب، مع ترجمة مختلف المدارس الفقهية والطوائف والفرق الإسلامية.
4 لجنة تقويم النص وعملها تقطيع النص وتوزيع فقراته بحسب عناوينه ومعنوناته، وجمله
حسب ما تقتضيه العبارة، مع ملاحظة جميع الاختلافات الواردة بين النسخ الخطية والنسخة
كلمة القسم 84

الحجرية المطبوعة وتثبيت ما ترجح منها، والإشارة إلى المرجوح عليه في الهامش عند اقتضاء
ذكره.
5 لجنة تنزيل الهامش، وعملها تنزيل هوامش الكتاب، بالاستفادة من كل ما أنجزته اللجان
المتقدمة في صياغة الهوامش النهائية بخط واضح وجميل.
6 مهمة الإشراف النهائي فنيا على الكتاب متنا وهامشا وضبط الملاحظات النهائية،
مع مراعاة فنية الترقيم والتنقيط وصياغة الكلمات الإملائية القديمة بقالب فني جديد، ومع وضح
فهارس الكتاب. ملتمسين لهم التوفيق والتسديد في إخراج بقية الأجزاء الأخرى بالشكل المطلوب
إن شاء الله تعالى.
[ولا يفوتنا هنا أن نتقدم بالشكر والامتنان إلى كل الإخوة المحققين، الذين شاركوا في تحقيق
وإخراج هذا الجزء من الكتاب، وهم: حجج الإسلام الشيخ علي اعتمادي، والشيخ نوروز علي
حاجى آبادي، والشيخ صفاء الدين البصري والشيخ عباس معلمي، والشيخ محمد بشيري،
والشيخ هادي علي زاده، والسيد رضا سيادت والشيخ أبو الحسن ملكي، والشيخ محمد علي
ملكي، والسيد طالب الموسوي، والشيخ محمد أكبري، والسيد حسن الشريفي. كما نشكر سماحة
الشيخ إلهي الخراساني في إشرافه على التحقيق، ملتمسين لهم جميعا التوفيق والتسديد في إنجاز بقية
أجزاء الكتاب، إن شاء الله تعالى].
ختاما نسأل الله العلي القدير أن يعيننا على أنفسنا، ويأخذ بأيدينا إلى ما فيه الخير، وأن يتقبل
منا هذا القيل خالصا لوجهه، ويجعلنا من محيي تراث مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ويجعلنا
نعم خلف لأولئك الماضين من علمائنا العظماء الذين كانوا وبحق نعم سلف لنا، ملتمسين
بذلك القربة إليه وحسن الثواب، إنه ولي النعم، وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.
قسم الفقه
ومجمع البحوث الإسلامية
كلمة القسم 85

نماذج من النسخ المخطوطة
صور النسخ المخطوطة 87

الصفحة الأولى من نسخة " خ "
صور النسخ المخطوطة 89

الصفحة الأولى من نسخة " ن "
صور النسخ المخطوطة 90

الصفحة الأولى من نسخة " م
صور النسخ المخطوطة 91

الصفحة الأولى من نسخة " ج
صور النسخ المخطوطة 92

الصفحة الأولى من نسخة " د "
صور النسخ المخطوطة 93

الصفحة الأخيرة من نسخة " خ "
صور النسخ المخطوطة 94

الصفحة الأخيرة من نسخة " غ "
صور النسخ المخطوطة 95

الصفحة الأخيرة من نسخة " ع "
صور النسخ المخطوطة 96

الصفحة الأخيرة من نسخة " م "
صور النسخ المخطوطة 97

الصفحة الأخيرة من نسخة " د ".
صور النسخ المخطوطة 98



اسم الکتاب : منتهى المطلب - ط الجديدة المؤلف : العلامة الحلي    الجزء : 1  صفحة : 0
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست